فِيهِ حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، واصفرت ألوانهم، وَظَهَرت السيماء فِي وُجُوههم، وترقى أَمرهم إِلَى حد رَحِمهم لَهُ رَبهم، فَخفف عَنْهُم. وَأَشَارَ إِلَى أَن القَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: وَعَن عَائِشَة، لَيْسَ بتهجين بل هُوَ ثَنَاء عَلَيْهِ وتحسين لحالته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَأمره أَن يَدُوم على ذَلِك. قَوْله:{قُم اللَّيْل إلَاّ قَلِيلا} أَي: مِنْهُ، قَالَ أَبُو بكر الأدفوي: للْعُلَمَاء فِيهِ أَقْوَال: الأول: أَنه لَيْسَ بِفَرْض، يدل على ذَلِك أَن بعده:{نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ} وَلَيْسَ كَذَلِك يكون الْفَرْض، وَإِنَّمَا هُوَ ندب. وَالثَّانِي: أَنه هُوَ حتم. وَالثَّالِث: أَنه فرض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: وَقَالَ الْحسن وَابْن سِيرِين: صَلَاة اللَّيْل فَرِيضَة على كل مُسلم، وَلَو قدر حلب شَاة. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: قَالَا ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: {فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} ، وَقَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله: سَمِعت بعض الْعلمَاء يَقُول: إِن الله تَعَالَى أنزل فرضا فِي الصَّلَاة قبل فرض الصَّلَوَات الْخمس، فَقَالَ:{يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} الْآيَة، ثمَّ نسخ هَذَا بقوله:{فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} ثمَّ احْتمل قَوْله: {فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَن يكون فرضا ثَانِيًا، لقَوْله تَعَالَى:{وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك}(الْإِسْرَاء: ٩٧) . فَوَجَبَ طلب الدَّلِيل من السّنة على أحد الْمَعْنيين، فوجدن سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا وَاجِب من الصَّلَوَات إلاّ الْخمس. قَالَ أَبُو عمر: قَول بعض التَّابِعين: قيام اللَّيْل فرض وَلَو قدر حلب شَاة، قَول شَاذ مَتْرُوك لإِجْمَاع الْعلمَاء أَن قيام اللَّيْل نسخ بقوله:{علم إِن لن تحصوه. .} الْآيَة. وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: افْترض الْقيام فِي أول هَذِه الصُّورَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَصْحَابه حولا حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، وَأمْسك الله خاتمتها إثني عشر شهرا، ثمَّ نزل التَّخْفِيف فِي آخرهَا، فَصَارَ قيام اللَّيْل تَطَوّعا بعد أَن كَانَ فَرِيضَة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَزيد بن أسلم وَآخَرين، فِيمَا حكى عَنْهُم النّحاس، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : {قُم اللَّيْل} يَعْنِي: قُم اللَّيْل كُله إلاّ قَلِيلا مِنْهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أَصْحَابه وَقَامُوا اللَّيْل كُله وَلم يعرفوا مَا حد الْقَلِيل، فَأنْزل الله تَعَالَى:{نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا} فَاشْتَدَّ ذَلِك أَيْضا على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أَصْحَابه فَقَامُوا اللَّيْل كُله حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، وَذَلِكَ قبل الصَّلَوَات الْخمس، فَفَعَلُوا ذَلِك سنة، فَأنْزل الله تَعَالَى ناسختها فَقَالَ:{علم أَن لن تحصوه} يَعْنِي: قيام اللَّيْل من الثُّلُث وَالنّصف، وَكَانَ هَذَا قبل أَن تفرض الصَّلَوَات الْخمس، فَلَمَّا فرضت الْخمس نسخت هَذِه كَمَا نسخت الزَّكَاة كل صَدَقَة، وَصَوْم رَمَضَان كل صَوْم، وَفِي (تَفْسِير ابْن الْجَوْزِيّ) : كَانَ الرجل يسهر طول اللَّيْل مَخَافَة أَن يقصر فِيمَا أَمر بِهِ من قيام ثُلثي اللَّيْل أَو نصفه أَو ثلثه، فشق عَلَيْهِم ذَلِك، فَخفف الله عَنْهُم بعد سنة، وَنسخ وجوب التَّقْدِير بقوله:{علم أَن لن تحصوه فَتَابَ عَلَيْكُم فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَي: صلوا مَا تيَسّر من الصَّلَاة، وَلَو قدر حلب شَاة، ثمَّ نسخ وجوب قيام اللَّيْل بالصلوات الْخمس بعد سنة أُخْرَى، فَكَانَ بَين الْوُجُوب وَالتَّخْفِيف سنة، وَبَين الْوُجُوب والنسخ بِالْكُلِّيَّةِ سنتَانِ.
ثمَّ إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى:{قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} على مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ: {نصفه} بدل {من اللَّيْل} و {إِلَّا قَلِيلا} اسْتثِْنَاء من النّصْف، كَأَنَّهُ قَالَ: قُم أقل من نصف اللَّيْل وَالضَّمِير فِي {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} لِلنِّصْفِ، وَالْمعْنَى التَّخْيِير بَين أَمريْن: بَين أَن يقوم أقل من نصف اللَّيْل على الْبَتّ، وَبَين أَن يخْتَار أحد الْأَمريْنِ، وهما النُّقْصَان من النّصْف وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَإِن شِئْت جعلت: نصفه، بَدَلا من: قَلِيلا، وَكَانَ تخييرا بَين ثَلَاث: بَين قيام النّصْف بِتَمَامِهِ، وَبَين النَّاقِص، وَبَين قيام الزَّائِد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وصف النّصْف بالقلة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل.
قَوْله:{ورتل الْقُرْآن ترتيلاً} يَعْنِي ترسل فِيهِ. وَقَالَ الْحسن: بَينه، إِذا قرأته. وَقَالَ الضَّحَّاك: إقرأ حرفا حرفا، وروى مُسلم من حَدِيث حَفْصَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرتل السُّورَة حَتَّى تكون أطول من أطول مِنْهَا، وَعَن مُجَاهِد: رتل بعضه على إِثْر بعض على تؤدة، وَعَن ابْن عَبَّاس: بَينه بَيَانا، وَعنهُ: إقرأه على هينتك ثَلَاث آيَات وأربعا وخمسا، وَقَالَ قَتَادَة: تثبت فِيهِ تثبتا، وَقيل: فَصله تَفْصِيلًا وَلَا تعجل فِي قِرَاءَته. وَقَالَ أَبُو بكر بن طَاهِر: تدبر فِي لطائف خطابه، وطالب نَفسك بِالْقيامِ بأحكامه، وقلبك بفهم مَعَانِيه، وسرك بالإقبال عَلَيْهِ. قَوْله:{إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلاً} أَي: الْقُرْآن يثقل الله فَرَائِضه وحدوده، وَيُقَال: هُوَ ثقيل على من خَالفه، وَيُقَال: هُوَ ثقيل فِي الْمِيزَان، خَفِيف على اللِّسَان، وَيُقَال: إِن نُزُوله ثقيل كَمَا قَالَ: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل}(الْحَشْر: ١٢) . الْآيَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يَعْنِي بالْقَوْل الثقيل: الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من الْأَوَامِر والنواهي الَّتِي هِيَ تكاليف شاقة ثَقيلَة على الْمُكَلّفين، خَاصَّة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ متحملها بِنَفسِهِ ومحملها لأمته، فَهِيَ أثقل عَلَيْهِ وأنهض لَهُ. قَوْله:{إِن ناشئة اللَّيْل} قَالَ السَّمرقَنْدِي: يَعْنِي سَاعَات اللَّيْل، وَهِي مَأْخُوذَة من: نشأت أَي: ابتدأت شَيْئا بعد شَيْء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِن سَاعَات اللَّيْل الناشئة فَاكْتفى