فِي ذَلِك بِحَدِيث عَائِشَة الَّذِي يَأْتِي عَن قريب، وَفِيه: (حَتَّى إِنِّي لأقول: هَل قَرَأَ بِأم الْقُرْآن؟) قُلْنَا: سلمنَا أَن لَا صَلَاة إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ، وَمَا اعْتبرنَا خلاف هَؤُلَاءِ، وَلَكِن تعْيين قِرَاءَة الْفَاتِحَة فيهمَا من أَيْن؟ فَإِن قَالُوا: بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة إلَاّ بِفَاتِحَة الْكتاب) ؟ قُلْنَا: يُعَارضهُ مَا روى فِي صَلَاة الْمُسِيء حَيْثُ قَالَ لَهُ: (فَكبر ثمَّ إقرأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن) ، فَهَذَا يُنَافِي تعْيين قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة مُطلقًا، إِذْ لَو كَانَت قرَاءَتهَا متعينة لأَمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، بل هُوَ صَرِيح فِي الدّلَالَة على أَن الْفَرْض مُطلق الْقِرَاءَة، كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَيُمكن أَن يُوَجه وَجه الْمُطَابقَة بَين حَدِيث الْبَاب وَبَين التَّرْجَمَة بِأَن يُقَال: إِن كلمة: مَا، فِي الأَصْل للاستفهام عَن مَاهِيَّة الشَّيْء، مثلا: إِذا قلت مَا الأنسان مَعْنَاهُ؟ مَا ذَاته وَحَقِيقَته؟ فَجَوَابه: حَيَوَان نَاطِق، وَقد يستفهم بهَا عَن صفة الشَّيْء نَحْو قلوه تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى} (طه: ٧١) . وَمَا لَوْنهَا؟ وَهَهُنَا أَيْضا قَوْله: مَا يقْرَأ؟ اسْتِفْهَام عَن صفة الْقِرَاءَة فِي رَكْعَتي الْفجْر هَل هِيَ قَصِيرَة أَو طَوِيلَة؟ فَقَوله: (خفيفتين) يدل على أَنَّهَا كَانَت قَصِيرَة، إِذْ لَو كَانَت طَوِيلَة لما وصفت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بقولِهَا: (خفيفتين) .
وَأما تعْيين هَذِه الْقِرَاءَة فيهمَا فقد علم بِأَحَادِيث أُخْرَى. مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن عمر، أخرجه التِّرْمِذِيّ فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، وَأَبُو عمار قَالَا: حَدثنَا أَبُو أَحْمد الزبيرِي حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن مُجَاهِد (عَن ابْن عمر، قَالَ: رمقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرآ فَكَانَ يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد) . وَقَالَ: حَدِيث ابْن عمر حَدِيث حسن، وَأَبُو أَحْمد الزبيرِي ثِقَة حَافظ، واسْمه: مُحَمَّد بن عبد الله بن الزبير الْأَسدي الْكُوفِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أَحْمد بن سِنَان وَمُحَمّد بن عبَادَة كِلَاهُمَا عَن أبي أَحْمد الزبيرِي، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عمار بن زُرَيْق عَن أبي إِسْحَاق فَزَاد فِي إِسْنَاده إِبْرَاهِيم بن مهَاجر بَين أبي إِسْحَاق وَبَين مُجَاهِد. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا من رِوَايَة عَاصِم ابْن بَهْدَلَة عَن ذَر وَأبي وَائِل، (عَن عبد الله قَالَ: مَا أحصي مَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الْفجْر: بقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد) . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أخرجه الْبَزَّار من رِوَايَة مُوسَى بن خلف عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ وَقل هُوَ الله أحد) ، وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة: أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة يزِيد ابْن كيسَان عَن أبي حَازِم (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَرَأَ فِي رَكْعَتي الْفجْر: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ وَقل هُوَ الله أحد) . وَلأبي هُرَيْرَة حَدِيث آخر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أبي الْغَيْب، واسْمه: سَالم، (عَن أبي هُرَيْرَة: أَنه سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر: {قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} (آل عمرَان: ٤٨) . فِي الرَّكْعَة الأولى وبهذه الْآيَة {رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} (آل عمرَان: ٣٥) . أَو {إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَلَا تسْأَل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم} (الْبَقَرَة: ٩١١ وفاطر: ٤٢) . شكّ من الرَّاوِي. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس: أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة سعيد بن يسَار (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر: {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} (الْبَقَرَة: ٦٣١) . وَالَّتِي فِي آل عمرَان: {تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} (آل عمرَان: ٤٦) . لفظ مُسلم وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد (إِن كثيرا مِمَّا كَانَ يقْرَأ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رَكْعَتي الْفجْر {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} (الْبَقَرَة: ٦٣١) . الْآيَة، قَالَ: هَذِه فِي الرَّكْعَة الأولى، وَفِي الرَّكْعَة الْآخِرَة: {آمنا بِاللَّه وَأشْهد بِأَنا مُسلمُونَ} (آل عمرَان: ٢٥٢ والمائدة: ١١١) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: كَانَ يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر فِي الأولى مِنْهُمَا الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة: {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} (الْبَقَرَة: ٦٣١) . وَالْبَاقِي نَحوه. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عبد الله بن جَعْفَر: أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة أَصْرَم بن حَوْشَب عَن إِسْحَاق بن وَاصل عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ (عَن عبد الله بن جَعْفَر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر والركعتين، بعد الْمغرب،: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد) . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ جَابر بن عبد الله: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة طَلْحَة بن خِدَاش (عَن جَابر بن عبد الله: أَن رجلا قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتي الْفجْر، فَقَرَأَ فِي الأولى: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، حَتَّى انْقَضتْ السُّورَة، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا عبد عرف ربه، وَقَرَأَ فِي الْآخِرَة: قل هُوَ الله أحد، حَتَّى انْقَضتْ السُّورَة، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا عبد آمن بربه. قَالَ طَلْحَة: فَأَنا أحب أَقرَأ بِهَاتَيْنِ السورتين فِي هَاتين الرَّكْعَتَيْنِ) .
وَأما رجال حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فقد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة كِلَاهُمَا عَن
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute