على أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا ترك وَرَثَة من بَنِينَ وعصبة، وَاخْتلفُوا إِذا لم يتركهما وَلَا وَارِثا بِنسَب أَو نِكَاح، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ لَهُ أَن يُوصي بِمَالِه كُله، وَعَن أبي مُوسَى مثله، وَقَالَ بقولهمَا قوم، مِنْهُم: مَسْرُوق وَعبيدَة وَإِسْحَاق، وَاخْتلف فِي ذَلِك قَول أَحْمد، وَذهب إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا يَقُول بقول زيد بن ثَابت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَعَن عُبَيْدَة: إِذا مَاتَ الرجل وَلَيْسَ عَلَيْهِ عقد لأحد وَلَا عصبَة تَرثه فَإِنَّهُ يُوصي بِمَالِه كُله حَيْثُ شَاءَ. وَعَن مَسْرُوق وَشريك، مثله. وَعَن الْحسن وَأبي الْعَالِيَة مثله، ذكره فِي (المُصَنّف) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد وَإِسْحَاق وَمَالك فِي أحد قوليهما. وَقَالَ زيد بن ثَابت: لَا يجوز لأحد إِن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا كَانَ لَهُ بنُون أَو وَرَثَة كَلَالَة أَو ورث جمَاعَة الْمُسلمين، لِأَن بَيت مَا لَهُم عصبَة من لَا عصبَة لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة. وَأجْمع فُقَهَاء الْأَمْصَار أَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث إِذا أجازها الْوَرَثَة جَازَت، وَإِن لم تجزها الْوَرَثَة لم يجز مِنْهَا إلَاّ الثُّلُث. وأبى ذَلِك أهل الظَّاهِر فمنعوها وَإِن أجازتها الْوَرَثَة، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن كيسَان، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز، وَإِن أجازها الْوَرَثَة لحَدِيث: (لَا وَصِيَّة لوَارث) ، وَسَائِر الْفُقَهَاء يجيزون ذَلِك إِذا أجازها الْوَرَثَة، ويجعلونها هبة. وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن الثُّلُث هُوَ الْغَايَة تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْوَصِيَّة، وَإِن التَّقْصِير عَنهُ أفضل.
وَكره جمَاعَة من أهل الْعلم الْوَصِيَّة بِجَمِيعِ الثُّلُث. قَالَ طَاوُوس: إِذا كَانَت ورثته قَلِيلا وَمَاله كثيرا فَلَا بَأْس إِن يبلغ الثُّلُث، وَاسْتحبَّ طَائِفَة الْوَصِيَّة بِالربعِ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ إِسْحَاق: السّنة الرّبع، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الثُّلُث كثير) إلَاّ أَن يكون رجل يعرف فِي مَاله شُبْهَة، فَيجوز لَهُ الثُّلُث. قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم لإسحاق حجَّة فِي قَوْله: السّنة الرّبع، وَقَالَ ابْن بطال: أوصى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالربعِ. وَاخْتَارَ آخَرُونَ السُّدس، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يوصوا بِمثل نصيب أحد الْوَرَثَة حَتَّى يكون أقل، رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح، وَكَانَ السُّدس أحب إِلَيْهِ من الثُّلُث. وَأوصى أنس، فِيمَا ذكره فِي (المُصَنّف) من حَدِيث عبَادَة الصيدلاني عَن ثَابت عَنهُ، بِمثل نصيب أحد وَلَده، وَأَجَازَ آخَرُونَ الْعشْر، وَعَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه يفضل الْوَصِيَّة بالخمس، وَبِذَلِك أوصى، وَقَالَ: رضيت لنَفْسي مَا رَضِي الله لنَفسِهِ: يَعْنِي خمس الْغَنِيمَة.
وَاسْتحبَّ جمَاعَة الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ محتجين بِحَدِيث الْبَاب، وَبِحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن وهب عَن طَلْحَة بن عَمْرو، وَتفرد بِذكرِهِ مَعَ ضعفه عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جعل الله لكم فِي الْوَصِيَّة ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم) . وَفِيه جَوَاز ذكر الْمَرِيض مَا يجده لغَرَض صَحِيح من مداواة أَو دُعَاء أَو وَصِيَّة أَو نَحْو ذَلِك، وَإِنَّمَا يكره من ذَلِك مَا كَانَ على سَبِيل التسخط وَنَحْوه، فَإِنَّهُ قَادِح فِي أجر مَرضه.
وَفِيه: فِي قَوْله: (أفأتصدق مَالِي كُله؟) فِي رِوَايَة إِن صحت حجَّة قَاطِعَة لما ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور أهل الْعلم فِي هبات الْمَرِيض وصدقته وعتقه، أَن ذَلِك من ثلثه لَا من جَمِيع مَاله، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعَامة أهل الحَدِيث والرأي، محتجين بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فِي الَّذِي اعْتِقْ سِتَّة أعبد، فِي مَرضه وَلَا مَال لَهُ غَيرهم، ثمَّ توفّي فَأعتق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة، وَقَالَت فرقة من أهل النّظر وَأهل الظَّاهِر، فِي هبة الْمَرِيض؛ إِنَّهَا من جَمِيع المَال، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا القَوْل لَا نعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين قَالَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عمر: قد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن عَامر بن سعد هُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيث سعد: (أفأتصدق) وَأما مُصعب بن سعد فَإِنَّمَا قَالَ: أفأوصي، وَلم يقل: أفأتصدق، قَالَ أَبُو عَمْرو: الَّذِي أقوله أَن ابْن شهَاب رَوَاهُ عَن سعد، فَقَالَ: أفأوصي؟ كَمَا قَالَ مُصعب وَهُوَ الصَّحِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد روى شُعْبَة وَالثَّوْري عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَامر عَن سعد: أفأوصي بِمَالي كُله؟ وَكَذَا روى عبد الْملك بن عُمَيْر عَن مُصعب.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض للْإِمَام وَغَيره. إِبَاحَة جمع المَال وَأَنه لَا عيب فِي ذَلِك كَمَا يَدعِيهِ بعض المتصوفة. وَفِيه: الْحَث على صلَة الرَّحِم وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب واستحباب الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر، وَأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَأَن الْمُبَاح إِذا قصد بِهِ وَجه الله صَار طَاعَة، ويثاب بِهِ، وَقد نبه عَلَيْهِ بِأَحْسَن الحظوظ الدُّنْيَوِيَّة الَّتِي تكون فِي الْعَادة عِنْد المداعبة، وَهُوَ وضع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، فَإِذا قصد بأبعد الْأَشْيَاء عَن الطَّاعَة وَجه الله تَعَالَى فَيحصل بِهِ الْأجر، فَغَيره بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص ذكر الزَّوْجَة دون غَيرهَا؟ قلت: لِأَن زَوْجَة الْإِنْسَان من أخص حظوظه الدُّنْيَوِيَّة وشهواته. وَفِيه: من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أطلعه الله تَعَالَى: أَن سَعْدا لَا يَمُوت حَتَّى يخلف جمَاعَة، كَمَا أطلعه أَنه لَا يَمُوت حَتَّى ينْتَفع بِهِ قوم ويتضرر بِهِ آخَرُونَ، على مَا ذَكرْنَاهُ، حَتَّى إِنَّه عَاشَ وَفتح الْعرَاق
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute