غَائِبا عَن بلد الْمَيِّت إِذا كَانَ فِي بلد وَفَاته قد اسقطوا فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ. قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي. أما من لم يحصل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي بلد وفاه، كَالْمُسلمِ يَمُوت فِي بلد الْمُشْركين وَلَيْسَ فِيهِ مُسلم، فَإِنَّهُ يجب على أهل الْإِسْلَام الصَّلَاة عَلَيْهِ كَمَا فِي قصَّة النَّجَاشِيّ، وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّجَاشِيّ رجل مُسلم قد آمن برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه على نبوته إلَاّ أَنه كَانَ يكتم إيمَانه، وَالْمُسلم إِذا مَاتَ يجب على الْمُسلمين أَن يصلوا عَلَيْهِ، إلَاّ أَنه كَانَ بَين ظهراني أهل الْكفْر، وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ من يقوم بِحقِّهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَلَزِمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل ذَلِك إِذْ هُوَ نبيه ووليه وأحق النَّاس بِهِ، فَهَذَا وَالله أعلم هُوَ السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ بِظهْر الْغَيْب فَإِذا صلوا عَلَيْهِ استقبلوا الْقبْلَة وَلم يتوجهوا إِلَى بلد الْمَيِّت إِن كَانَ فِي غير جِهَة الْقبْلَة،
وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب، وَزَعَمُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْفِعْل، إِذْ كَانَ فِي حكم الْمشَاهد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما روى فِي بعض الْأَخْبَار أَنه قد سويت لَهُ الأَرْض حَتَّى يبصر مَكَانَهُ، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فعل شَيْئا من أَفعَال الشَّرِيعَة كَانَ علينا الْمُتَابَعَة والاتساء بِهِ، والتخصيص لَا يعلم إلَاّ بِدَلِيل، وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بِالنَّاسِ إِلَى الصَّلَاة فَصف بهم وصلوا مَعَه، فَعلم أَن هَذَا التَّأْوِيل فَاسد. قلت: هَذَا التَّشَيُّع كُله على الْحَنَفِيَّة من غير تَوْجِيه وَلَا تَحْقِيق، فَنَقُول، مَا يظْهر لَك فِيهِ دفع كَلَامه، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع لَهُ سَرِيره فَرَآهُ، فَتكون الصَّلَاة عَلَيْهِ كميت رَآهُ الإِمَام وَلَا يرَاهُ الْمَأْمُوم. فَإِن قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نقل بَيِّنَة وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّد الاجتمال. قلت: ورد مَا يدل على ذَلِك، فروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عمرَان بن الْحصين أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أَخَاكُم النَّجَاشِيّ توفّي فَقومُوا صلوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفوا خَلفه، فَكبر أَرْبعا وهم لَا يظنون إلَاّ أَن جنَازَته بَين يَدَيْهِ) . أخرجه من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَنهُ، وَلأبي عوَانَة من طَرِيق أبان وَغَيره عَن يحيى:(فصلينا خَلفه وَنحن لَا نرى إلَاّ الْجِنَازَة قدامنا) . وَذكر الواحدي فِي (أَسبَابه) عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كشف للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سَرِير النَّجَاشِيّ حَتَّى رَآهُ وَصلى عَلَيْهِ، وَيدل على ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل على غَائِب غَيره، وَقد مَاتَ من الصَّحَابَة خلق كثير وهم غائبون عَنهُ وَسمع بهم فَلم يصل عَلَيْهِم إلَاّ غَائِبا وَاحِدًا، ورد أَنه طويت لَهُ الأَرْض حَتَّى حَضَره وَهُوَ مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ، روى حَدِيث الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) وَكتاب (مُسْند الشاميين) من حَدِيث أبي أُمَامَة، قَالَ:(كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتبوك فَنزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، أَتُحِبُّ أَن تطوى لَك الأَرْض فَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَضرب بجناحه على الأَرْض وَرفع لَهُ سَرِيره، فصلى عَلَيْهِ وَخَلفه صفان من الْمَلَائِكَة فِي كل صف سَبْعُونَ ألف ملك ثمَّ رَجَعَ) .