الثَّالِث فِيهِ: جَوَاز دفن الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فِي قبر، وَبِه أَخذ غير وَاحِد من أهل الْعلم، وَكَرِهَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَا بَأْس أَن يدْفن الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْقَبْر الْوَاحِد، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، غير أَن الشَّافِعِي وَأحمد قَالَا ذَلِك فِي مَوضِع الضرورات، وحجتهم حَدِيث جَابر. وَقَالَ أَشهب: إِذا دفن اثْنَان فِي قبر لم يَجْعَل بَينهمَا حاجز من التُّرَاب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا معنى لَهُ إلَاّ التَّضْيِيق. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، ذكر أبي حَدِيثا رَوَاهُ ابْن وهب عَن ابْن جريج عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع يَوْم أحد النَّفر فِي الْقَبْر الْوَاحِد، فَكَانَ يقدم فِي الْقَبْر إِلَى الْقبْلَة أقرأهم، ثمَّ ذَا السن يَلِي أقرأهم) . قَالَ: أبي يحيى هَذَا: هُوَ ابْن صبيح، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : حَدثنَا أَيُّوب عَن حميد بن هِلَال عَن أبي الدهماء (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: شكوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقرح يَوْم أحد، فَقَالَ: أحفروا وَاجْعَلُوا فِي الْقَبْر الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَقدمُوا أَكْثَرهم قُرْآنًا) . وَقَالَ الْقَدُورِيّ فِي شَرحه، والسرخسي فِي (الْمَبْسُوط) : إِن وَقعت الْحَاجة إِلَى الزِّيَادَة فَلَا بَأْس أَن يدْفن الإثنان وَالثَّلَاثَة فِي قبر وَاحِد، وَفِي المرغيناني: أَو خَمْسَة، وَهُوَ إِجْمَاع، وَفِي (الْبَدَائِع) : وَيقدم أفضلهَا، وَيجْعَل بَين كل اثْنَيْنِ حاجز من التُّرَاب فَيكون فِي حكم قبرين، وَيقدم الرجل فِي اللَّحْد، وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة تقدم الْمَرْأَة على الرجل إِلَى الْقبْلَة، وَيكون الرجل إِلَى الرجل أقرب وَالْمَرْأَة عَنهُ أبعد.
الرَّابِع: فِيهِ دفن الشَّهِيد بدمه، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زملوهم بدمائهم) .
الْخَامِس فِيهِ: أَن الشَّهِيد لَا يغسل، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ إلَاّ مَا روى عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن ابْن أبي الْحسن من: أَنه يغسل. قَالَا: مَا مَاتَ ميت إلَاّ أجنب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَنْهُمَا بِسَنَد صَحِيح، وَعَن الْحسن بِسَنَد صَحِيح:(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِحَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَغسل) وَحكي عَن الشّعبِيّ وَغَيره أَن حَنْظَلَة بن الراهب غسلته الْمَلَائِكَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ جنبا. وَقَالَ السُّهيْلي: فِي ترك غسل الشُّهَدَاء تَحْقِيق حياتهم وتصديق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا}(آل عمرَان: ٩٦١) . الْآيَة، وَلِأَن الدَّم أثر عبَادَة فَلَا يزَال، كَمَا قَالُوا فِي السِّوَاك للصَّائِم.
السَّادِس: فِيهِ أَن الشَّهِيد لَا يصلى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَاب فِيهِ خلاف، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الشَّهِيد يصلى عَلَيْهِ بِلَا غسل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عقبَة الْآتِي عَن قريب، وَبِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي بكر ابْن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد فَجعل يُصَلِّي على عشرَة عشرَة وَحَمْزَة، وَهُوَ كَمَا هُوَ يرفعون وَهُوَ كَمَا هُوَ مَوْضُوع) ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يوضع بَين يَدَيْهِ يَوْم أحد عشرَة فَيصَلي عَلَيْهِم وعَلى حَمْزَة، ثمَّ تُوضَع الْعشْرَة وَحَمْزَة مَوْضُوع، ثمَّ تُوضَع عشرَة فيصلى عَلَيْهِم وعَلى حَمْزَة مَعَهم) . وَأخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بأتم مِنْهُ: حَدثنَا الْعَبَّاس، رَحمَه الله تَعَالَى، ابْن عبد الله الْبَغْدَادِيّ حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش حَدثنَا يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما قتل حَمْزَة يَوْم أحد أَقبلت صَفِيَّة تسْأَل: مَا صنع؟ فَلَقِيت عليا وَالزُّبَيْر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَت: يَا عَليّ وَيَا زبير! مَا فعل حَمْزَة؟ فأوهماهما أَنَّهُمَا لَا يدريان، قَالَ: فَضَحِك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَقَالَ: إِنِّي أَخَاف على عقلهَا، فَوضع يَده على صدرها فاسترجعت وبكت، ثمَّ