للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يعدى إِلَى مفعولين، وَعَلِيهِ بَيت الحماسة:

(وهه نتحوك تَحت الْفِيل سقيا)

فَإِذا بني للْمَفْعُول الأول قيل: نتجت ولدا إِذا وَضعته. قَوْله: (جَمْعَاء) هِيَ الْبَهِيمَة الَّتِي لم يذهب من بدنهَا شَيْء سميت بهَا لِاجْتِمَاع سَلامَة أعضائها لَا جدع فِيهَا وَلَا كي. قَوْله: (وَهل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء) فِي مَوضِع الْحَال على التَّقْدِيرَيْنِ، أَي: بَهِيمَة سليمَة مقولاً فِي حَقّهَا هَذَا القَوْل، وَفِيه نوع من التَّأْكِيد، يَعْنِي: كل من نظر إِلَيْهَا قَالَ هَذَا القَوْل لظُهُور سلامتها، والجدعاء الْبَهِيمَة الَّتِي قطعت أذنها من جدع إِذا قطع الْأذن وَالْأنف، وَتَخْصِيص ذكر الْجمع إِيمَاء إِلَى أَن تصميمهم على الْكفْر إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب صممهم عَن الْحق، وَأَنه كَانَ خليقا فيهم. قَوْله: (ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة) ، الظَّاهِر: ثمَّ قَرَأَ فَعدل إِلَى القَوْل، وأتى بالمضارع على حِكَايَة الْحَال الْمَاضِيَة استحضارا لَهُ فِي ذهن السَّامع، كَأَنَّهُ يسمع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْآن قَوْله: (لَا تَبْدِيل) لَا يجوز أَن يكون إِخْبَارًا مَحْضا لحُصُول التبديل، بل يؤول بِأَن يُقَال: من شَأْنه أَن لَا يُبدل أَو يُقَال: إِن الْخَبَر بِمَعْنى النَّهْي.

ثمَّ نبين مَا قَالُوا فِي معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) . فَقَالَت: طَائِفَة: لَيْسَ معنى قَوْله: (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) عَاما، وَمَعْنَاهُ أَن كل من ولد على الْفطْرَة وَكَانَ لَهُ أَبَوَانِ على غير الْإِسْلَام هوداه أَو نصراه. قَالُوا: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَن جَمِيع المولودين من بني آدم أَجْمَعِينَ يولدون على الْفطْرَة بَين الْأَبَوَيْنِ الْكَافرين، وَكَذَلِكَ من لم يُولد على الْفطْرَة وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين حكم لَهُ بحكمهما فِي صغره، وَإِن كَانَا يهوديين فَهُوَ يَهُودِيّ ويرثهما ويرثانه، وَكَذَلِكَ إِن كَانَا نَصْرَانِيين أَو مجوسيين، حَتَّى يعبر عَنهُ لِسَانه ويبلغ الْحِنْث، فَيكون لَهُ حكم نَفسه حِينَئِذٍ لَا حكم أَبَوَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْغُلَام الَّذِي قَتله الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طبعه الله يَوْم طبعه كَافِرًا) ، وَبِمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَليّ بن زيد عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد يرفعهُ: (أَلا إِن بني آدم خلقُوا طَبَقَات، فَمنهمْ من يُولد مُؤمنا وَيحيى مُؤمنا وَيَمُوت مُؤمنا. وَمِنْهُم من يُولد كَافِرًا وَيحيى كَافِرًا وَيَمُوت كَافِرًا، وَمِنْهُم من يُولد كَافِرًا وَيحيى كَافِرًا وَيَمُوت مُؤمنا) . قَالُوا: فَفِي هَذَا وَفِي غُلَام الْخضر مَا يدل على قَوْله: (كل مَوْلُود) لَيْسَ على الْعُمُوم، وَأورد عَلَيْهِم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل بني آدم يُولد على الْفطْرَة) وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ غير صَحِيح وَلَو صَحَّ مَا فِيهِ حجَّة لجَوَاز الْخُصُوص كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ( {تدمر كل شَيْء} (الْأَحْقَاف: ٥٢) . وَلم تدمر السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَوله: {فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} (الْأَنْعَام: ٤٤) . وَلم تفتح عَلَيْهِم أَبْوَاب الرَّحْمَة.

وَقَالَ آخَرُونَ: معنى الحَدِيث على الْعُمُوم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل بني آدم يُولد على الْفطْرَة) ، وَلِحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) ، وَلِحَدِيث إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (والولدان حوله أَوْلَاد النَّاس. .) فَهَذِهِ كلهَا تدل على أَن الْمَعْنى: الْجَمِيع يولدون على الْفطْرَة، وضعفوا حَدِيث سعيد بن مَنْصُور بِوَجْهَيْنِ: الأول: أَن فِي سَنَده ابْن جدعَان. وَالثَّانِي: أَنه لَا يُعَارض دَعْوَى الْعُمُوم، لِأَن الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة رَاجِعَة إِلَى علم الله تَعَالَى فَإِنَّهُ قد يُولد الْوَلَد بَين مُؤمنين، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، يكون قد سبق فِي علمه تَعَالَى غير ذَلِك، وَكَذَا من ولد بَين كَافِرين، وَإِلَى هَذَا يرجع غُلَام خضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى هَذِه الْفطْرَة، فَذكر أَبُو عبيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه: قبل أَن يُؤمر النَّاس بِالْجِهَادِ، قيل: فِيهِ نظر، لِأَن فِي حَدِيث الْأسود بن سريع أَنه بعد الْجِهَاد، رَوَاهُ عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا بَال قوم يبلغون فِي الْقَتْل إِلَى الذُّرِّيَّة، إِنَّه لَيْسَ من مَوْلُود إِلَّا وَهُوَ يُولد على الْفطْرَة فيعبر عَنهُ لِسَانه) ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (مَا من مَوْلُود يُولد إلَاّ على فطْرَة الْإِسْلَام حَتَّى يعرب) ، وَذكره أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) وَقَالَ: هُوَ حَدِيث مَشْهُور ثَابت، وَفِيه نظر، لِأَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَيحيى بن معِين وَأَبا عبد الله بن مَنْدَه وَأَبا دَاوُد وَغَيرهم أَنْكَرُوا أَن يكون الْحسن سمع من الْأسود شَيْئا. وَقيل: روى عَن الْأَعْمَش عَن الْأسود وَهُوَ حَدِيث بَصرِي صَحِيح، وَقَالَ قوم: الْفطْرَة هُنَا الْخلقَة الَّتِي يخلق عَلَيْهَا الْمَوْلُود من الْمعرفَة بربه، لِأَن الْفطْرَة الْخلقَة من الفاطر الْخَالِق، وأنكروا أَن يكون الْمَوْلُود يفْطر على كفر أَو إِيمَان أَو معرفَة وإنكار، وَإِنَّمَا يُولد الْمَوْلُود على السَّلامَة فِي الْأَغْلَب خلقَة وطبعا، وبنية لَيْسَ فِيهَا إِيمَان وَلَا كفر وَلَا إِنْكَار، وَلَا معرفَة، ثمَّ يَعْتَقِدُونَ الْإِيمَان أَو غَيره إِذا ميزوا، وَاحْتَجُّوا بقوله فِي الحَدِيث: (كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة. .) الحَدِيث، فالأطفال فِي حِين الْولادَة كَالْبَهَائِمِ السليمة. فَلَمَّا بغوا استهوتهم الشَّيَاطِين فَكفر أَكْثَرهم إلَاّ من عصمه الله تَعَالَى، وَلَو فطروا على الْإِيمَان أَو الْفِكر فِي أول أَمرهم لما انتقلوا عَنهُ أبدا، فقد تجدهم يُؤمنُونَ ثمَّ يكفرون ثمَّ يُؤمنُونَ، ويستحيل أَن يكون الطِّفْل فِي حِين وِلَادَته يعقل شَيْئا، لِأَن الله أخرجهم فِي حَالَة

<<  <  ج: ص:  >  >>