الأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء، ويستدل بِهِ على أَن من شرع فِي صَلَاة نفل أَو صَوْم نفل وَجب عَلَيْهِ اتمامه، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: ٣٣) وبالاتفاق على أَن حج التَّطَوُّع يلْزم بِالشُّرُوعِ. وَلما حملت الشَّافِعِيَّة على الِانْقِطَاع قَالُوا: لَا تلْزم النَّوَافِل بِالشُّرُوعِ، وَلَكِن يسْتَحبّ لَهُ إِتْمَامه، وَلَا يجب بل يجوز قطعه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الحَدِيث متمسك لنا فِي أصلين: أَحدهمَا فِي شُمُول عدم الْوُجُوب فِي غير مَا ذكر فِي الحَدِيث، كَعَدم وجوب الْوتر. وَالثَّانِي: فِي أَن الشُّرُوع غير مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر مُطلقًا شرع فِيهِ أَو لم يشرع، وَتمسك الْخصم بِهِ على أَن الشُّرُوع مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر إلَاّ مَا تطوع بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمُثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وجوب مَا تطوع بِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب. قَالَ: وَهَذَا مغالطة، لِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: ٥٦) أَي: لَا يجب شَيْء إلَاّ أَن اتطوع، وَقد علم أَن التَّطَوُّع لَيْسَ بِوَاجِب، فَلَا يجب شَيْء آخر أصلا. قلت: أما الأول: فَلَا نسلم شُمُول عدم الْوُجُوب مُطلقًا، بل الشُّمُول بِالنّظرِ إِلَى تِلْكَ الْحَالة، وَوقت الْإِخْبَار، وَالْوتر لم يكن وَاجِبا حِينَئِذٍ، يدل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر الْحَج وَالْوتر مثله. وَأما الثَّانِي: فَلَيْسَ من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: ٥٦) على أَن يكون الْمَعْنى: لَا يجب شَيْء، إلَاّ أَن تطوع، بل معنى إلَاّ أَن تطوع: أَن تشرع فِيهِ، فَيصير وَاجِبا كَمَا يصير وَاجِبا بِالنذرِ. وَقَالَ بَعضهم: من قَالَ: إِنَّه مُنْقَطع احْتَاجَ إِلَى دَلِيل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى النَّسَائِيّ وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر، وَفِي البُخَارِيّ أَنه أَمر جوَيْرِية بنت الْحَارِث أَن تفطر يَوْم الْجُمُعَة. بعد أَن شرعت فِيهِ، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة لَا يسْتَلْزم الْإِتْمَام إلَاّ إِذا كَانَت نَافِلَة بِهَذَا النَّص فِي الصَّوْم، وبالقياس فِي الْبَاقِي. قلت: من الْعجب أَن هَذَا الْقَائِل كَيفَ لم يذكر الْأَحَادِيث الدَّالَّة على استلزام الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة بالإتمام، وعَلى الْقَضَاء بالإفساد، وَقد روى أَحْمد فِي مُسْنده، عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين، فأهديت لنا شَاة فأكلنا مِنْهَا، فَدخل علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرنَاهُ فَقَالَ: (صوما يَوْمًا مَكَانَهُ) . وَفِي لفظ آخر: بَدَلا، أَمر بِالْقضَاءِ. وَالْأَمر للْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع ملزوم، وَأَن الْقَضَاء بالإفساد وَاجِب. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أم سَلمَة أَنَّهَا صَامت يَوْمًا تَطَوّعا فأفطرت، فَأمرهَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن تقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَحَدِيث النَّسَائِيّ لَا يدل على أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، ترك الْقَضَاء بعد الْإِفْطَار، وإفطاره رُبمَا كَانَ عَن عذر. وَحَدِيث جوَيْرِية إِنَّمَا أمرهَا بالأفطار عِنْد تحقق وَاحِد من الْأَعْذَار: كالضيافة، وكل مَا جَاءَ من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب فَمَحْمُول على مثل هَذَا، وَلَو وَقع التَّعَارُض بَين الْأَخْبَار، فالترجيح مَعْنَاهُ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالثَّانِي: أَن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نَافِيَة، والمثبت مقدم. وَالثَّالِث: أَنه احْتِيَاط فِي الْعِبَادَة فَافْهَم. قَوْله: (وَذكر لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة) هَذَا قَول الرَّاوِي، كَأَنَّهُ نسي مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله والتبس عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَذكر لَهُ الزَّكَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وَذكر لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، الصَّدَقَة. وَالْمرَاد مِنْهَا: الزَّكَاة أَيْضا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: ٦٠) وَهَذَا يُؤذن بِأَن مُرَاعَاة الْأَلْفَاظ مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة، فَإِذا الْتبس عَلَيْهِ يُشِير فِي لَفظه إِلَى مَا ينبىء عَنهُ، كَمَا فعل الرَّاوِي هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر قَالَ: (فَأَخْبرنِي بِمَا فرض الله عَليّ من الزَّكَاة) . قَالَ: فَأخْبر رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بشرائع الْإِسْلَام. قَوْله: (وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص) ، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: (وَالَّذِي أكرمك) أَي: لَا أَزِيد على مَا ذكرت وَلَا أنقص مِنْهُ شَيْئا. قَوْله: (أَفْلح إِن صدق) وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عِنْد مُسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق، أَو دخل الْجنَّة وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَلأبي دَاوُد مثله، لَكِن بِحَذْف: أَو. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: الْفَلاح رَاجع إِلَى لفظ: وَلَا أنقص خَاصَّة، وَالْمُخْتَار أَنه رَاجع إِلَيْهِمَا بِمَعْنى أَنه إِذا لم يزدْ وَلم ينقص كَانَ مفلحا، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، وَمن أَتَى بِمَا عَلَيْهِ كَانَ مفلحا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه إِذا أَتَى بزائد على ذَلِك لَا يكون مفلحا، لِأَن هَذَا مِمَّا يعرف بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذا أَفْلح بِالْوَاجِبِ ففلاحه بالمندوب مَعَ الْوَاجِب أولى، وَقَالَ ابْن بطال: دلّ قَوْله: أَفْلح إِن صدق على أَنه إِن لم يصدق فِي التزامها أَنه لَيْسَ بمفلح، وَهَذَا خلاف قَول المرجئة. وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون السَّائِل رَسُولا، فَحلف أَن لَا أَزِيد فِي الإبلاغ على مَا سَمِعت، وَلَا أنقص فِي تَبْلِيغ مَا سمعته مِنْك إِلَى قومِي. وَيُقَال: يحْتَمل صُدُور هَذَا الْكَلَام مِنْهُ على الْمُبَالغَة فِي التَّصْدِيق وَالْقَبُول، أَي: قبلت قَوْلك فِيمَا سَأَلتك عَنهُ قبولاً لَا مزِيد عَلَيْهِ من جِهَة السُّؤَال، وَلَا نُقْصَان فِيهِ من طرق الْقبُول. وَيُقَال: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شَرْعِيَّة أَمر آخر، وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ: لَا أَزِيد عَلَيْهِ بتغيير حَقِيقَته، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُصَلِّي الظّهْر خمْسا. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّوَافِل بل يحافظ على كل الْفَرَائِض، وَهَذَا مُفْلِح بِلَا شكّ، وَإِن كَانَت مواظبته على ترك النَّوَافِل مذمومة. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه المُرَاد أَنِّي لَا أَزِيد على
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute