الْمَعْنى عِنْدِي وَاحِد، لِأَن من فتح أَرَادَ لبيْك لِأَن الْحَمد لَك على كل حَال، وَاعْترض عَلَيْهِ لِأَن التَّقْيِيد لَيْسَ فِي الْحَمد، وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّلْبِيَة. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الْكسر أَجود لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن تكون الْإِجَابَة مُطلقَة غير معللة، وَأَن الْحَمد وَالنعْمَة لله على كل حَال، وَالْفَتْح يدل على التَّعْلِيل، فَكَأَنَّهُ يَقُول: أَجَبْتُك لهَذَا السَّبَب، وَالْأول أَعم وَأكْثر فَائِدَة. قَوْله: (وَالنعْمَة لَك) الْمَشْهُور فِيهِ النصب، قَالَ عِيَاض: وَيجوز فِيهِ الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَيكون الْخَبَر محذوفا، وَالتَّقْدِير أَن الْحَمد لَك وَالنعْمَة مُسْتَقِرَّة لَك، نَقله عَن ابْن الْأَنْبَارِي. قَوْله: (وَالْملك) ، أَيْضا بِالنّصب على الْمَشْهُور، وَيجوز الرّفْع وَتَقْدِيره: وَالْملك كَذَلِك، وَالْملك بِضَم الْمِيم، وَالْفرق بَينه وَبَين الْملك بِكَسْر الْمِيم.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن الْحِكْمَة فِي مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة هِيَ التَّنْبِيه على إكرام الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، بِأَن وفودهم على بَيته إِنَّمَا كَانَ باستدعاء مِنْهُ، عز وَجل، فَإِن قلت: لِمَ قرن الْحَمد بِالنعْمَةِ وأفرد الْملك؟ قلت: لِأَن الْحَمد مُتَعَلق بِالنعْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَال: الْحَمد لله على نعمه، فَجمع بَينهمَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا حمد، إلَاّ لَك، لِأَنَّهُ لَا نعْمَة إلَاّ لَك وَأما الْملك، فَهُوَ معنى مُسْتَقل بِنَفسِهِ، ذكر لتحقيق: أَن النِّعْمَة كلهَا لله لِأَنَّهُ صَاحب الْملك.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي حكم التَّلْبِيَة، فَفِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال، قد ذَكرنَاهَا فِي أَوَاخِر الْبَاب السَّابِق.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي الزِّيَادَة على أَلْفَاظ التَّلْبِيَة المروية عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على القَوْل بِهَذِهِ التَّلْبِيَة، وَاخْتلفُوا فِي الزِّيَادَة فِيهَا، فَقَالَ مَالك: كره الزِّيَادَة فِيهَا على تَلْبِيَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه: لَا بَأْس أَن يُزَاد فِيهَا مَا كَانَ ابْن عمر يزِيدهُ، قلت: روى هَذِه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى التَّمِيمِي، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر: أَن تَلْبِيَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك، لَا شريك لَك. قَالَ: وَكَانَ عبد الله بن عمر يزِيد فِيهَا: لبيْك لبيْك، لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر بيديك، لبيْك وَالرغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن، لَهُ أَن يزِيد فِيهَا مَا شَاءَ وَأحب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: لَا بَأْس بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: إِن زَاد فِي التَّلْبِيَة شَيْئا من تَعْظِيم الله تَعَالَى فَلَا بَأْس إِن شَاءَ الله، وَأحب إِلَيّ إِن يقْتَصر. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، فِي قَول: لَا يَنْبَغِي أَن يُزَاد فِيهَا على تَلْبِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَذْكُورَة، وَإِلَيْهِ ذهب الطَّحَاوِيّ وَاخْتَارَهُ، وَقد زَاد جمَاعَة فِي التَّلْبِيَة، مِنْهُم: ابْن عمر، وَمِنْهُم أَبوهُ عمر بن الْخطاب، زَاد هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي جَاءَت عَن ابْنه عبد الله بن عمر، وَلَعَلَّ عبد الله أَخذهَا من أَبِيه، فَإِنَّهُ رَوَاهَا عَنهُ كَمَا هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَمِنْهُم ابْن مَسْعُود، فَروِيَ عَنهُ أَنه لبّى، فَقَالَ: لبيْك عدد الْحَصَى وَالتُّرَاب. وروى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث جَابر، قَالَ: أهلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر التَّلْبِيَة، قَالَ: وَالنَّاس يزِيدُونَ: ذَا المعارج، وَنَحْوه من الْكَلَام وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع فَلَا يَقُول لَهُم شَيْئا. وروى سعيد بن الْمَنْصُور فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْأسود بن يزِيد أَنه كَانَ يَقُول: لبيْك غفار الذُّنُوب لبيْك. وَفِي (تَارِيخ مَكَّة) للأزرقي، صفة تَلْبِيَة جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، رَوَاهُ من رِوَايَة عُثْمَان بن سَاج، قَالَ: أَخْبرنِي صَادِق أَنه بلغه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لقد مر بفج الروحاء سَبْعُونَ نَبيا تلبيتهم شَتَّى، مِنْهُم يُونُس بن مَتى، وَكَانَ يُونُس يَقُول: لبيْك فراج الكرب لبيْك، وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لبيْك أَنا عَبدك لديك لبيْك. قَالَ: وتلبية عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام: أَنا عَبدك وَابْن أمتك بنت عبديك لبيْك، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف بِعَرَفَات، فَلَمَّا قَالَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، قَالَ إِنَّمَا الْخَيْر خير الْآخِرَة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل من رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين عَن يحيى بن سِيرِين عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لبيْك حجا حَقًا، تعبدا وَرقا. وَفِي هَذَا الحَدِيث نُكْتَة غَرِيبَة، وَهُوَ أَنه اجْتمع فِيهِ ثَلَاثَة أخوة يروي بَعضهم عَن بعض، وَلَا يعرف هَذَا فِي غير هَذَا الحَدِيث. قَوْله فِي حَدِيث مُسلم وَسَعْديك، مَعْنَاهُ: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. قَوْله: وَالرغْبَاء، قَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) الرغب وَالرَّغْبَة والرغب، بِالتَّحْرِيكِ: إتساع الْإِرَادَة، ورغبت فِيهِ أوسعته إِرَادَة، وأرغبت لُغَة، والرغبى وَالرغْبَاء مثل: النعمى والنعماء، إسمان مِنْهُ إِذا فتحت مددت، وَإِذا ضممت قصرت. وَفِي (الْمُحكم) : الرغب والرغب والرغب وَالرَّغْبَة والرغبوت والرغبي والرغبا وَالرغْبَاء: الضراعة وَالْمَسْأَلَة، وَقد رغب إِلَيْهِ وَرغب إِلَيْهِ هُوَ عَن ابْن الْأَعرَابِي، ودعا الله رَغْبَة ورغبة. وَقيل: هِيَ الرغبى مثل سكرى. وَالْعَمَل فِيهِ حذف، تَقْدِيره: وَالْعَمَل إِلَيْك، أَي إِلَيْك الْقَصْد بِهِ، والانتهاء بِهِ إِلَيْك لنجازى عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute