وَأي مُجْتَهد بعد الصَّحَابَة يلْحق ابْن عَبَّاس أَو يقرب مِنْهُ حَتَّى لَا يقلده؟ فَإِن هَذَا عسف عَظِيم. قَوْله: (الَّتِي ذكر الله تَعَالَى) أَي: فِي الْآيَة الَّتِي بعْدهَا آيَة التَّمَتُّع، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: ٧٩١) . قَوْله: (فِي هَذِه الْأَشْهر) وَفَائِدَة هَذَا التَّقْيِيد هُوَ التَّنْبِيه على أَن التَّمَتُّع الَّذِي يُوجب الدَّم أَو الصَّوْم الَّذِي فِي أشهر الْحَج. قَوْله: (شَوَّال) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة. قَوْله: (والرفث) إِلَى آخِره، قد مر بَيَانه مستقصىً. قَوْله: (والفسوق) ، الْمعاصِي فِيهِ إِشْعَار أَن الفسوق جمع فسق لَا مصدر، وَتَفْسِير الْأَشْهر، وَسَائِر الْأَلْفَاظ زِيَادَة للفوائد بِاعْتِبَار أدنى مُلَابسَة بَين الْآيَتَيْنِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة التَّمَتُّع، وَأَن الْمُتَمَتّع على قسمَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون سائق الْهَدْي، فَلَا يتَحَلَّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، وَالْآخر: غير سائق الْهَدْي، فَإِنَّهُ يتَحَلَّل إِذا فرغ عَن عمرته، ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ. وَفِيه: أَن الْمَكِّيّ لَا تمتّع عَلَيْهِ، وَعند الْجُمْهُور: التَّمَتُّع أَن يجمع الشَّخْص بَين الْعمرَة وَالْحج فِي سفر وَاحِد فِي أشهر الْحَج فِي عَام وَاحِد، وَأَن يقدم الْعمرَة، وَأَن لَا يكون مكيا، فَمَتَى اخْتَلَّ شَرط من هَذِه الشُّرُوط لم يكن مُتَمَتِّعا. وَفِيه: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج لمن لَا يجد الْهَدْي، وَالْأَفْضَل عِنْد أبي حنيفَة أَن يَصُوم السَّابِع وَالثَّامِن وَالتَّاسِع من ذِي الْحجَّة، رَجَاء أَن يقدر على الْهَدْي الَّذِي هُوَ الأَصْل، وَالْمُسْتَحب فِي السَّبْعَة أَن يكون صَومهَا بعد رُجُوعه إِلَى أَهله، إِذْ جَوَاز ذَلِك مجمع عَلَيْهِ، وَيجوز إِذا رَجَعَ إِلَى مَكَّة بعد أَيَّام التَّشْرِيق فِي مَكَّة، وَفِي الطَّرِيق، وَهُوَ محكي عَن مُجَاهِد وَعَطَاء، وَهُوَ قَول مَالك، وَجوزهُ أَيْضا فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَعَائِشَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ، وَلم يجوزه عَليّ بن أبي طَالب للنَّهْي عَن ذَلِك. وَقَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس، وَقَالَ إِسْحَاق: يصومها فِي الطَّرِيق، وَللشَّافِعِيّ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَصَحهَا: عَنهُ رُجُوعه إِلَى أَهله. الثَّانِي: الرُّجُوع هُوَ التَّوَجُّه من مَكَّة. الثَّالِث: الرُّجُوع من منى إِلَى مَكَّة. الرَّابِع: الْفَرَاغ من أَفعَال الْحَج، فَإِن فَاتَهُ صَوْم الثَّلَاثَة حَتَّى أَتَى يَوْم النَّحْر لم يجزه عِنْد أبي حنيفَة إلَاّ الدَّم. رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس وَمُجاهد وَالْحسن وَعَطَاء، وَجوز صَومهَا بعد أَيَّام التَّشْرِيق حَمَّاد وَالثَّوْري، وَللشَّافِعِيّ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: لَا يَصُوم وينتقل إِلَى الْهَدْي. الثَّانِي: عَلَيْهِ صَوْم عشرَة أَيَّام يفرق بِيَوْم. الثَّالِث: عشرَة أَيَّام مُطلقًا. الرَّابِع: يفرق بأَرْبعَة أَيَّام فَقَط. الْخَامِس: يفرق بِمدَّة إِمْكَان السّير. السَّادِس: بأَرْبعَة أَيَّام، وَمُدَّة إِمْكَان السّير، وَهُوَ أَصَحهَا عِنْدهم، وَخرج ابْن شُرَيْح وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي قولا: أَن الصَّوْم يسْقط ويستقر فِي ذمَّته. وَالله أعلم.
٨٣ - بابُ الإغْتِسالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب الِاغْتِسَال عِنْد دُخُول مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى.
٣٧٥١ - حدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ قَالَ أخْبَرَنا أيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كانَ بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا دَخَلَ أدْنَى الْحَرَمُ أمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبيتُ بذِي طِوىً ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ ويَغْتَسِلُ ويُحَدِّثُ أنَّ نبيَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَفْعَلُ ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويغتسل بِذِي طوى لدُخُول مَكَّة) . وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بأتم مِنْهُ مُعَلّقا فِي: بَاب الإهلال مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً. وَابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
قَوْله: (أدنى الْحرم) أَي: أول مَوضِع مِنْهُ. قَوْله: (أمسك عَن التَّلْبِيَة) ، أَي: يَتْرُكهَا، وَالظَّاهِر أَن هَذَا كَانَ مذْهبه، وإلَاّ فالإمساك عَنْهَا فِي يَوْم الْعِيد أَو كَانَ يستأنفها، ذَلِك أَو كَانَ تَركهَا لسَبَب من الْأَسْبَاب. قَوْله: (ويغتسل) أَي: يغْتَسل بِذِي طوى. قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى مَا فعله من الْإِمْسَاك عَن التَّلْبِيَة إِذا دخل أدنى الْحرم والبيتوتة بِذِي طوى والاغتسال فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الِاغْتِسَال لدُخُول مَكَّة مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء، إلَاّ أَنه لَيْسَ فِي تَركه عَامِدًا عِنْدهم فديَة. وَقَالَ أَكْثَرهم: الْوضُوء يجزىء فِيهِ. وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتَوَضَّأ أَحْيَانًا ويغتسل أَحْيَانًا. وروى ابْن نَافِع عَن مَالك. أَنه اسْتحبَّ الْأَخْذ بقول ابْن عمر: يتَوَضَّأ أَحْيَانًا ويغتسل أَحْيَانًا للإهلال بِذِي الحليفة وبذى طوى لدُخُول
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute