إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائفِينَ والعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هاذا بَلَدا آمِنا وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ قالَ ومَنْ كَفَرَ فأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أضطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وبِئْسَ المَصِيرُ. وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . (الْبَقَرَة: ٥٢١ ٨٢١) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَوْله فضل مَكَّة، وَالتَّقْدِير وَفِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا} (الْبَقَرَة: ٥٢١ ٨٢١) . الخ وَهَذِه أَرْبَعَة آيَات سيقت كلهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ بعض الْآيَة الأولى، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر كل الْآيَة الأولى: ثمَّ قَالُوا: إِلَى قَوْله {التواب الرَّحِيم} (الْبَقَرَة: ٥٢١ ٨٢١) [/ ح.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت} أَي: وَاذْكُر إِذْ جعلنَا الْبَيْت، وَالْبَيْت اسْم غَالب للكعبة كالنجم للثريا. قَوْله: (مثابة) أَي: مباءة ومرجعا للحجاج والعمار، فينصرفون عَنهُ ثمَّ يثوبون إِلَيْهِ. قَالَ الزّجاج: أصل مثابة مثوبة نقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى الثَّاء وقلبت الْوَاو ألفا لتحركها فِي الأَصْل، وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء مثابات. وَقَالَ ابْن جرير: قَالَ بعض نحاة الْبَصْرَة: ألحقت الْهَاء فِي المثابة لما كثر من يثوب إِلَيْهِ كَمَا يُقَال: سيارة ونسابة، وَقَالَ بعض نحاة الْكُوفَة: بل المثاب والمثابة بِمَعْنى وَاحِد نَظِير الْمقَام والمقامة، فالمقام ذكر على قَوْله لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ الْموضع الَّذِي يُقَام فِيهِ، وأنثت المقامة لِأَنَّهُ أُرِيد بهَا الْبقْعَة، وَأنكر هَؤُلَاءِ أَن تكون المثابة نظيرة للسيارة والنسابة، وَقَالُوا: إِنَّمَا أدخلت الْهَاء فِي السيارة والنسابة تَشْبِيها لَهَا بالداهية، والمثابة مفعلة من ثاب الْقَوْم إِلَى الْموضع إِذا رجعُوا إِلَيْهِ، فهم يثوبون إِلَيْهِ مثابا ومثابة وثوابا، بِمَعْنى: جعلنَا الْبَيْت مرجعا للنَّاس ومعادا يأتونه كل عَام ويرجعون إِلَيْهِ، فَلَا يقضون مِنْهُ وطرا، وَمِنْه أثاب إِلَيْهِ عقله إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ بعد عزوبه عَنهُ. فَإِن قلت: الْبَيْت، مُذَكّر، ومثابة مُؤَنّثَة، والتطابق بَين الصّفة والموصوف شَرط؟ قلت: لَيست التَّاء فِيهِ للتأنيث، بل هُوَ كَمَا يُقَال: دِرْهَم ضرب الْأَمِير، والمصدر قد يُوصف بِهِ. يُقَال: رجل عدل رَضِي، أَي: معدل مرضى، وَقيل: الْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة لِكَثْرَة من يثوب إِلَيْهِ، مثل: عَلامَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء أخبرنَا إِسْرَائِيل عَن مُسلم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: مثابة، قَالَ: يثوبون إِلَيْهِ ثمَّ يرجعُونَ. قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة وَسَعِيد بن جُبَير فِي رِوَايَة وَعَطَاء وَالْحسن وعطية وَالربيع بن أنس وَالضَّحَّاك نَحْو ذَلِك، وَقَالَ سعيد بن جُبَير فِي رِوَايَة أُخْرَى، وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي: {مثابة للنَّاس} أَي: مجمعا. قَوْله: {وَأمنا} أَي: مَوضِع أَمن. كَقَوْلِه تَعَالَى: {حرما أمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} (العنكبوت: ٧٦) . وَلِأَن الْجَانِي يأوي إِلَيْهِ فلايتعرض لَهُ حَتَّى يخرج. وَقَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، أَي: أمنا للنَّاس. وَقَالَ الرّبيع بن أنس عَن أبي الْعَالِيَة يَعْنِي: أمنا من الْعَدو، وَأَن يحمل فِيهِ السَّلَام. قَوْله: {وَاتَّخذُوا} ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَاتَّخذُوا على إِرَادَة القَوْل، أَي: وَقُلْنَا اتَّخذُوا مِنْهُ مَوضِع صَلَاة تصلونَ فِيهِ، وَهِي على وَجه الِاخْتِيَار والاستحباب دون الْوُجُوب، وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر: وَاتَّخذُوا، على صِيغَة الْمَاضِي، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ على صِيغَة الْأَمر.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا هُوَ؟ فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا عمر بن شبه النمري حَدثنَا أَبُو خلف يَعْنِي: عبد الله بن عِيسَى حَدثنَا دَاوُد بن أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} قَالَ: مقَام إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَعَن ابْن عَبَّاس: مقَام إِبْرَاهِيم الْحَج لَهُ، ثمَّ فسره عَطاء فَقَالَ: التَّعْرِيف وصلاتان بِعَرَفَة والمشعر وَمنى وَرمي الْجمار وَالطّواف بَين الصَّفَا والمروة. وَقَالَ سُفْيَان عَن عبد الله بن مُسلم عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: الْحجر مقَام إِبْرَاهِيم، فَكَانَ يقوم عَلَيْهِ ويتناول إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة. وَقَالَ السّديّ: الْمقَام الْحجر الَّذِي وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، تَحت قدم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه. حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ، وَضَعفه. وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي (تَفْسِيره) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع بن أنس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد الصَّباح، حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن ابْن جريج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَذَا مقَام أَبينَا إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أَفلا تتخذه مصلى؟ فَأنْزل الله عز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَقد كَانَ الْمقَام مُلْصقًا بجدار الْكَعْبَة قَدِيما، ومكانه مَعْرُوف الْيَوْم إِلَى جَانب
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute