(وَمَا حب الدَّار شغفن قلبِي ... وَلَكِن حبُّ من سكن الديارا)
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَيُمكن أَن يستنبط من تَقْبِيل الْحجر واستلام الْأَركان جَوَاز تَقْبِيل مَا فِي تقبيله تَعْظِيم الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِن لم يرد فِيهِ خبر بالندب لم يرد بِالْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَقد رَأَيْت فِي بعض تعاليق جدي مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف: أَن بَعضهم كَانَ إِذا رأى الْمَصَاحِف قبلهَا، وَإِذا رأى أَجزَاء الحَدِيث قبلهَا، وَإِذا رأى قُبُور الصَّالِحين قبلهَا، قَالَ: وَلَا يبعد هَذَا، وَالله أعلم فِي كل مَا فِيهِ تَعْظِيم لله تَعَالَى.
وَفِيه: فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، التَّسْلِيم للشارع فِي أُمُور الدّين وَحسن الإتباع فِيمَا لم يكْشف عَن مَعَانِيهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: تَسْلِيم الْحِكْمَة وَترك طلب الْعِلَل وَحسن الإتباع فِيمَا لم يكْشف لنا عَنهُ من الْمَعْنى، وَأُمُور الشَّرِيعَة على ضَرْبَيْنِ: مَا كشف عَن علته وَمَا لم يكْشف، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيم.
وَفِيه: قَاعِدَة عَظِيمَة فِي اتِّبَاع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيمَا يَفْعَله وَلَو لم يعلم الْحِكْمَة فِيهِ. وَفِيه: دفع مَا وَقع لبَعض الْجُهَّال من أَن فِي الْحجر الْأسود خاصية ترجع إِلَى ذَاته. وَفِيه: بَيَان السّنَن بالْقَوْل وَالْفِعْل. وَفِيه: أَن للْإِمَام إِذا خشِي على أحد من فعله فَسَادًا اعْتِقَاده أَن يُبَادر إِلَى بَيَان الْأَمر ويوضح ذَلِك.
فَائِدَة: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْحجر الْأسود:(وَإنَّهُ ليَبْعَثهُ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة، لَهُ عينان يبصر بهما، ولسان ينْطق بِهِ يشْهد على من استلمه بِحَق) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْأَوْسَط) من حَدِيث عبد الله ابْن عَمْرو: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:(يُؤْتى الرُّكْن يَوْم الْقِيَامَة أعظم من أبي قبيس، لَهُ لِسَان وشفتان يتَكَلَّم عَمَّن استلمه بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ يَمِين الله الَّتِي يُصَافح بهَا خلقه) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح. وَفِيه: جَوَاز كَلَام الجمادات، وَمِنْه تَسْبِيح الْحَصَى وَكَلَام الْحجر وَوُجُود اللِّسَان والعينين للحجر الْأسود هَل يخلقه الله تَعَالَى فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة أَو هُوَ مَوْجُود فِيهِ قبل ذَلِك؟ وَإِنَّمَا هُوَ أَمر خَفِي غامض يحْتَمل الْأَمريْنِ. وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أَن هَذَا الْوَصْف كَانَ مَوْجُودا لَهُ من يَوْم {لست بربكم}(الْأَعْرَاف: ٢٧١) . قَوْله:(يشْهد على من استلمه) ، على: هُنَا بِمَعْنى: اللَّام، وَقد ورد فِي رِوَايَة الأحمد والدارمي فِي مسنديهما يشْهد لمن استلمه بِحَق وَكَذَلِكَ