وهُمْ يَعْلَمُونَ} .
هَذَا عطف على قَوْله: خوف الْمُؤمن، وَالتَّقْدِير: بَاب خوف الْمُؤمن من أَن يحبط عمله، وَخَوف التحذير من الاصرار على النِّفَاق. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، و: يحذر، على صِيغَة الْمَجْهُول بتَخْفِيف الذَّال وتشديدها، وَالْجُمْلَة محلهَا من الْإِعْرَاب الْجَرّ لِأَنَّهَا عطف على الْمَجْرُور كَمَا قُلْنَا، وآثار إبراهم التَّيْمِيّ وَابْن أبي مليكَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ مُعْتَرضَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ. فان قلت: فَلِمَ أوقعهَا مُعْتَرضَة؟ قلت: لِأَنَّهُ عقد الْبَاب على ترجمتين: الأولى: الْخَوْف من حَبط الْعَمَل، وَالثَّانيَِة: الحذر من الْإِصْرَار على النِّفَاق. وَذكر فِيهِ: ثَلَاثَة من الْآثَار، وَآيَة من الْقرَان، وحديثين مرفوعين. وَلما كَانَت الْآثَار الثَّلَاثَة مُتَعَلقَة بالترجمة الأولى ذكرهَا عقيبها، وَالْآيَة وَأحد الْحَدِيثين، وَهُوَ حَدِيث عبد الله، متعلقان بالترجمة الثَّانِيَة ذكرهمَا عقيبها، وَأما الحَدِيث الآخر، وَهُوَ حَدِيث عبَادَة، فَإِنَّهُ يتَعَلَّق بالترجمة الأولى أَيْضا على مَا نذكرهُ، وَهَذَا فِيهِ صِيغَة اللف والنشر غير مُرَتّب، والترجمة الثَّانِيَة فِي الرَّد على المرجئة لأَنهم قَالُوا: لَا حذر من الْمعاصِي مَعَ حُصُول الْإِيمَان، وَذكر البُخَارِيّ الْآيَة ردا عَلَيْهِم لِأَنَّهَا فِي مدح من اسْتغْفر من ذَنبه، وَلم يصر عَلَيْهِ، فمفهومه ذمّ من لم يفعل ذَلِك، وَكَأَنَّهُ لمح فِي ذَلِك حَدِيث عبد الله بن عَمْرو مَرْفُوعا، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد حسن، قَالَ: (ويل للمصرين الَّذين يصرون على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ) أَي: يعلمُونَ أَن من تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ لَا يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره. وَحَدِيث أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا أخرجه التِّرْمِذِيّ باسناد حسن: (مَا أصر من اسْتغْفر وَإِن عَاد فِي الْيَوْم سبعين مرّة) . وَالْآيَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة آل عمرَان، وَهِي: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب الا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} (آل عمرَان: ١٣٥) يفهم من الْآيَة أَنهم: إِذا لم يَسْتَغْفِرُوا، أَي: لم يتوبوا، وأصروا على ذنوبهم يكونُونَ مَحل الحذر وَالْخَوْف. وَقَالَ الواحدي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا فِي رِوَايَة عَطاء: نزلت هَذِه الْآيَة فِي نَبهَان التمار، أَتَتْهُ امْرَأَة حسناء تبْتَاع مِنْهُ تَمرا، فَضمهَا إِلَى نَفسه وَقبلهَا، ثمَّ نَدم على ذَلِك. فَأتى النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: (أَن رجلَيْنِ أَنْصَارِيًّا وثقيفياً آخى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بَينهمَا، فَكَانَا لَا يفترقان، قَالَ: فَخرج رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فِي بعض مغازيه، وَخرج مَعَه الثَّقَفِيّ وَخلف الْأنْصَارِيّ فِي أَهله وَحَاجته، وَكَانَ يتَعَاهَد أهل الثَّقَفِيّ، فَأقبل ذَات يَوْم فأبصر أمراته ضاحية قد اغْتَسَلت، وَهِي نَاشِرَة شعرهَا، فَوَقَعت فِي نَفسه، فَدخل عَلَيْهَا وَلم يسْتَأْذن حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَذهب ليلثمها، فَوضعت كفها على وَجههَا، فَقبل ظَاهر كفها، ثمَّ نَدم واستحى، وَأدبر رَاجعا، فَقَالَت: سُبْحَانَ الله {خُنْت امانتك وعصيت رَبك وَلم تصب حَاجَتك. قَالَ: فندم على صنعه، فَخرج يسيح فِي الْجبَال وَيَتُوب إِلَى الله تَعَالَى من ذَنبه، حَتَّى وافى الثَّقَفِيّ، فَأَخْبَرته امْرَأَته بِفِعْلِهِ، فَخرج يَطْلُبهُ حَتَّى دلّ عَلَيْهِ، فوافقه سَاجِدا لله، عز وَجل، وَهُوَ يَقُول: رب ذَنبي ذَنبي، قد خُنْت أخي. فَقَالَ لَهُ: يَا فلَان} قُم فَانْطَلق إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْأَلْهُ عَن ذَنْبك لَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يَجْعَل لَك فرجا وتوبة، فاقبل مَعَه حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ ذَات يَوْم عِنْد صَلَاة الْعَصْر نزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بتوبته، فَتَلَاهَا على رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله} (آل عمرَان: ١٣٥) إِلَى قَوْله: {وَنعم أجر العاملين} (آل عمرَان: ١٣٦) فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: أخاص هَذَا لهَذَا الرجل أم للنَّاس عَامَّة فِي التَّوْبَة، قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين.
٤٨ - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حدّثناشُعْبَةُ عَن زُبَيْدٍ قَالَ سَأَلت أَبَا وَائِلٍ عنِ المُرجِئَة فَقَالَ حدّثني عبدُ اللهِ أَن النَّبِىَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سِبَابُ المُسْلِم فسُوُقٌ وَقِتالُهُ كُفْرٌ.
قد قُلْنَا آنِفا: إِن حَدِيث عبد الله هَذَا للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وهى قَوْله: وَمَا يحذر عَن الْإِصْرَار إِلَى آخِره، فان قلت: كَيفَ مطابقته على التَّرْجَمَة؟ قلت: لما دلّ الحَدِيث على إبِْطَال قَول المرجئة الْقَائِلين بِعَدَمِ تفسيق مرتكبي الْكَبَائِر، وَعدم جعل السباب فسوقاً، وَعدم مقاتلة الْمُسلم كفراناً لحقه، طابق قَوْله: وَمَا يحذر عَن الْإِصْرَار إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: ابو عبد الله مُحَمَّد بن عرْعرة، بالعينين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالرَّاء المكررة، غير منصرف للعلمية والتأنيث، ابْن البرند، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، وَيُقَال، بفتحهما وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَكَأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute