كَانَ مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَالشَّافِعِيّ يَنْفِي، والمثبت مقدم. وَأما نحر الْبَقَرَة فقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَعَلَّك آذَاك؟) وَفِي لفظ لَهُ: (حملت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي لفظ: (وقف عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحُدَيْبِية) . وَفِي لفظ: (إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ وَأَنه يسْقط على وَجهه) ، وَفِي لفظ: (مرَّ بِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي لفظ لمُسلم: (قَالَ: فَأَتَيْته، قَالَ: أدنه) . وَفِي لفظ لَهُ: (مر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِالْحُدَيْبِية قبل أَن يدْخل مَكَّة وَهُوَ محرم) . فَإِن قلت: مَا الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات والقصة وَاحِدَة؟ قلت: لَا تعَارض فِي شَيْء من ذَلِك، أما لفظ: (لَعَلَّك آذَاك؟) فساكت عَن قيد، وَأما بَقِيَّة الْأَلْفَاظ فوجهها أَنه مر بِهِ وَهُوَ محرم فِي أول الْأَمر وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، ثمَّ حمل إِلَيْهِ ثَانِيًا بإرساله إِلَيْهِ، وَأما إِتْيَانه فَبعد الْإِرْسَال، وَأما رَأَيْته إِيَّاه فَلَا بُد مِنْهَا فِي الْكل. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي قَوْله: (لَعَلَّك آذَاك هوامك؟) هَذَا سُؤال عَن تَحْقِيق الْعلَّة الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم، فَلَمَّا أخبرهُ بالمشقة الَّتِي نالته أمره بِالْحلقِ، والهوام، بتَشْديد الْمِيم: جمع هَامة وَهِي مَا تدب من الأحناش، وَالْمرَاد بهَا ملا يلازم جَسَد الْإِنْسَان غَالِبا إِذا طَال عَهده بالتنظيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا يَقع هَذَا الإسم إلَاّ على الْمخوف من الأحناش، وَالْمرَاد بهَا الْقمل، لِأَنَّهُ يهم على الرَّأْس أَي: يدب قلت: إِنَّمَا قَالَ: وَالْمرَاد بهَا الْقمل، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُور فِي كثير من الرِّوَايَات. قَوْله: (إحلق رَأسك) ، أمره بِالْحلقِ وَهُوَ إِزَالَة شعر الرَّأْس، أَعم من أَن يكون بالوسى وبالمقص أَو بالنورة أَو غير ذَلِك. قَوْله: (أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين) لَيْسَ فِيهِ بَيَان قدر الْإِطْعَام، وَسَيَأْتِي الْبَيَان فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (أَو أنسك بِشَاة) ، هَكَذَا وَقعت رِوَايَة الْأَكْثَرين: بِشَاة، بِالْبَاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَو أنسك شَاة) ، بِغَيْر بَاء، وعَلى الأول تَقْدِيره: تقرب بِشَاة، فَلذَلِك عداهُ بِالْبَاء، وعَلى الثَّانِي تَقْدِيره: إذبح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام: مِنْهَا: جَوَاز الْحلق للْمحرمِ للْحَاجة مَعَ الْكَفَّارَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الْكَرِيمَة، وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ فِيهِ تعرض لغير حلق الرَّأْس من سَائِر شُعُور الْجَسَد، وَقد أوجب الْعلمَاء الْفِدْيَة بحلق سَائِر شُعُور الْبدن لِأَنَّهَا فِي معنى حلق الرَّأْس إلَاّ دَاوُد الظَّاهِرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تجب الْفِدْيَة إلَاّ بحلق الرَّأْس فَقَط، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الْمحَامِلِي: أَن فِي رِوَايَة عَن مَالك لَا تتَعَلَّق الْفِدْيَة بِشعر الْبدن.
وَمِنْهَا: أَنه أَمر بحلق شعر نَفسه، فَلَو حلق الْمحرم شعر حَلَال فَلَا فديَة على وَاحِد مِنْهُمَا عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: لَيْسَ للْمحرمِ أَن يحلق شعر الْحَلَال، فَإِن فعل فَعَلَيهِ صَدَقَة.
وَمِنْهَا: أَنه إِذا حلق رَأسه أَو لبس أَو تطيب عَامِدًا من غير ضَرُورَة، فقد حكى ابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) عَن أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، وَأَبُو ثَوْر: أَن عَلَيْهِ دَمًا لَا غير، وَأَنه لَا يُخَيّر إلَاّ فِي الضَّرُورَة، وَقَالَ مَالك: بئس مَا فعل وَعَلِيهِ الْفِدْيَة، وَهُوَ مُخَيّر فِيهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَمَا حَكَاهُ عَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه لَيْسَ بجيد، بل الْمَعْرُوف عَنْهُم وجوب الْفِدْيَة، كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ، كَمَا أوجبوا الْكَفَّارَة فِي الْيَمين الْغمُوس، بل أولى بِالْوُجُوب.
وَمِنْهَا: أَنه أطلق الْحلق لكعب بن عجْرَة وَلَكِن لضرورته، ولغير الضَّرُورَة لَا يجوز للْمحرمِ حَتَّى إِذا حلق من غير ضَرُورَة يلْزمه الْفِدْيَة، سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو عَالما أَو جَاهِلا، وَذهب إِسْحَاق وَدَاوُد إِلَى أَنه: لَا شَيْء على النَّاسِي.
وَمِنْهَا: أَنه قدم الْحلق على الصَّوْم وَالْإِطْعَام، وَفِي الْآيَة قدم الصَّوْم، فَهَل يفهم مِنْهُ وجوب التَّرْتِيب أَو المُرَاد الْأَفْضَلِيَّة فِيمَا قدم فِي الْآيَة والْحَدِيث؟ وَالْجَوَاب أَن الحَدِيث اخْتلفت أَلْفَاظه فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَفِي حَدِيث الْبَاب قدم الْحلق، وَفِي الحَدِيث الآخر قدم الصَّوْم، حَيْثُ قَالَ: (صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو تصدق بفرق بَين سِتَّة مَسَاكِين أَو أنسك مَا تيَسّر) . وَهَذَا مُوَافق لِلْآيَةِ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (قَالَ أَيُّوب: فَلَا أَدْرِي بِأَيّ ذَلِك بَدَأَ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (إذبح شَاة نسكا أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم. .) الحَدِيث، وعَلى هَذَا فَلَا فضل فِي تَقْدِيم أحد الْأَنْوَاع على بَعْضهَا من هَذَا الحَدِيث، لَكِن قد يسْتَدلّ بِتَقْدِيم الشَّاة فِي الْكَفَّارَة الْمرتبَة على أَفضَلِيَّة تَقْدِيم الذّبْح فِي غير الْمرتبَة.
وَمِنْهَا: أَنه خَيره بَين الصَّوْم وَالْإِطْعَام وَالذّبْح، وَقَالَ أَبُو عمر: عَامَّة الْآثَار عَن كَعْب وَردت بِلَفْظ التَّخْيِير، وَهُوَ نَص الْقُرْآن الْعَظِيم، وَعَلِيهِ مضى عمل الْعلمَاء فِي كل الْأَمْصَار، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) عَن أبي سعيد الْأَشَج: حَدثنَا حَفْص