قَوْله: (فَقَالَ للْقَوْم: كلوا) ، هَذَا أَمر إِبَاحَة لَا أَمر إِيجَاب، قَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا وَقعت جَوَابا عَن سُؤَالهمْ عَن الْجَوَاز لَا عَن الْوُجُوب، فَوَقَعت الصِّيغَة على مُقْتَضى السُّؤَال. قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا كَانَ لمَنْفَعَة لَهُم، فَلَو كَانَ للْوُجُوب لصار عَلَيْهِم، فَكَانَ يعود إِلَى مَوْضُوعه بِالنَّقْضِ.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن لحم الصَّيْد مُبَاح للْمحرمِ إِذا لم يعن عَلَيْهِ وَقَالَ الْقشيرِي اخْتلف النَّاس فِي أكل الْمحرم لحم الصَّيْد على مَذَاهِب.
أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع مُطلقًا صيد لأَجله أَو لَا، وَهَذَا مَذْكُور عَن بعض السّلف، دَلِيله حَدِيث الصعب بن جثامة.
الثَّانِي: مَمْنُوع إِن صَاده أَو صيد لأَجله، سَوَاء كَانَ بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.
الثَّالِث: إِن كَانَ باصطياده أَو بِإِذْنِهِ أَو بدلالته حرم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ على غير ذَلِك لم يحرم، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة.
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يَأْكُل مَا صيد وَهُوَ حَلَال، وَلَا يَأْكُل مَا صيد بعد. وَحَدِيث أبي قَتَادَة هَذَا يدل على جَوَاز أكله فِي الْجُمْلَة، وعزى صَاحب (الإِمَام) إِلَى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي حنيفَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن جده الزبير، قَالَ: (كُنَّا نحمل الصَّيْد صفيفا ونتزوده وَنحن محرمون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْبَلْخِي فِي (مُسْند أبي حنيفَة) من هَذَا الْوَجْه عَن هِشَام، وَمن جِهَة إِسْمَاعِيل بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: حَدثنَا شيخ لنا (عَن طَلْحَة بن عبد الله أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَحل آثَار الصَّيْد أيأكله الْمحرم؟ قَالَ: نعم) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أهْدى لطلْحَة طَائِر وَهُوَ محرم فَقَالَ: أكلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطَاهُ حمَار وَحش وَأمره أَن يفرقه فِي الرقَاق) . قَالَ: ويروى عَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ رخصَة. ثمَّ قَالَ: عَائِشَة تكرههُ وَغير وَاحِد، وروى الْحَاكِم على شَرطهمَا من حَدِيث جَابر يرفعهُ: (لحم صيد الْبر لكم حَلَال وَأَنْتُم حرم مَا لم تصيدوه أَو يصاد لَكِن) . قَالَ مهنىء: ذكر أَبُو عبد الله، يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل، هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِلَيْهِ أذهب، وَلما ذكر لَهُ حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن قيس عَن الْحسن بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة: (أهْدى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وشيقة لحم وَهُوَ محرم فَأَكله) ، فَجعل أَبُو عبد الله يُنكره إنكارا شَدِيدا، وَقَالَ: سَماع مثلا، هَكَذَا ذكره صَاحب التَّلْوِيح بِخَطِّهِ، وَفِيه: فَأَكله. قلت: روى الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ، حَدثنَا سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَن قيس بن مُسلم الجدلي عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ عَن عَائِشَة: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أهْدى لَهُ وشيقة ظَبْي وَهُوَ محرم فَرده) ، وَرَوَاهُ أَيْضا أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا الثَّوْريّ عَن قيس بن مُسلم عَن الْحسن بن مُحَمَّد (عَن عَائِشَة قَالَت: أهدي لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ظَبْيَة فِيهَا وشيقة صيد، وَهُوَ حرَام فَأبى أَن يَأْكُلهُ) . انْتهى. وَهَذَا يُخَالف مَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) فَإِن فِي لَفظه: (فَأَكله) ، والطَّحَاوِي لم يذكر هَذَا الحَدِيث إلَاّ فِي صدد الِاحْتِجَاج لمن قَالَ: لَا يحل للْمحرمِ أَن يَأْكُل لحم صيد ذبحه حَلَال، لِأَن الصَّيْد نَفسه حرَام عَلَيْهِ، فلحمه أَيْضا حرَام عَلَيْهِ، فَإِذا كَانَ الحَدِيث على مَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا يكون حجَّة لَهُم، بل إِنَّمَا يكون حجَّة لمن قَالَ بِجَوَاز أكل الْمحرم صيد الْمحل، وَالَّذين منعُوا من ذَلِك للْمحرمِ هُوَ الشّعبِيّ وطاووس وَمُجاهد وَجَابِر بن زيد وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة. قَوْله: (وشيقة ظَبْي) . الوشيقة: أَن يُؤْخَذ اللَّحْم فيغلى قَلِيلا وَلَا ينضج وَيحمل فِي الْأَسْفَار، وَقيل: هِيَ القديد، وَقد وَشقت اللَّحْم أشقه وشقا، وَيجمع على وشق ووشائق.
وَذكر الطَّحَاوِيّ أَيْضا أَحَادِيث أخر لهَؤُلَاء المانعين. مِنْهَا: مَا قَالَه: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن قَالَ: حَدثنَا أَسد (ح) وَحدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَليّ بن زيد عَن عبد الله ابْن الْحَارِث بن نَوْفَل: أَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نزل قديدا، فَأتي بالحجل فِي الجفان شَائِلَة بأرجلها، فَأرْسل إِلَيّ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ يضفز بَعِيرًا لَهُ، فَجَاءَهُ وَالْخَيْط يتحات من يَدَيْهِ، فَأمْسك عَليّ وَأمْسك النَّاس، فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من هَهُنَا من أَشْجَع؟ هَل علمْتُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهُ أَعْرَابِي ببيضات نعام وتتمير وَحش، فَقَالَ: أطعمهن أهلك فَإنَّا حرم؟ قَالُوا: نعم) . وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير. قَالَ: أخبرنَا سُلَيْمَان بن كثير عَن حميد الطَّوِيل (عَن إِسْحَاق ابْن عبد الله بن الْحَارِث عَن أَبِيه، وَكَانَ الْحَارِث خَليفَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الطَّائِف، فَصنعَ لعُثْمَان طَعَاما وصنع
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute