قدمُوا الْمَدِينَة وعكوا. قَوْله: (إِلَى الْجحْفَة) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء، وَهِي مِيقَات أهل مصر وَالشَّام وَالْمغْرب الْآن. وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ: أَن العماليق أخرجُوا بني عنبر وهم أخوة عَاد من يثرب فنزلوا الْجحْفَة، وَكَانَ اسْمهَا: مهيعة، فَجَاءَهُمْ سيل فاجتحفهم فسميت الْجحْفَة، وَمعنى: اجتحفهم: سلب أَمْوَالهم وأخرب أبنيتهم وَلم يبْق شَيْئا، وَإِنَّمَا خص الْجحْفَة لِأَنَّهَا كَانَت يَوْمئِذٍ دَار شرك. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَكَانَ أهل الْجحْفَة إِذْ ذَاك يهودا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يَدْعُو على من لم يجبهم إِلَى دَار الْإِسْلَام إِذا خَافَ مِنْهُ مَعُونَة أهل الْكفْر، وَيسْأل الله أَن يبتليهم بِمَا يشغلهم عَنهُ، وَقد دَعَا على قومه أهل مَكَّة حِين يئس مِنْهُم. فَقَالَ: (أللهم أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف) ، ودعا على أهل الْجحْفَة بالحمى ليشغلهم بهَا فَلم تزل الْجحْفَة من يَوْمئِذٍ أَكثر بِلَاد الله حمَّى وَأَنه ليتقي شرب المَاء من عينهَا الَّذِي يُقَال لَهُ عين حم، فَقل من شرب مِنْهُ إلَاّ حُمَّ، وَلما دَعَا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك الدُّعَاء لم يبْق أحد من أهل الْجحْفَة إلَاّ أَخَذته الْحمى، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا هُوَ السِّرّ فِي أَن الطَّاعُون لَا يدْخل الْمَدِينَة، لِأَن الطَّاعُون وباء، وَسَيِّدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِنَقْل الوباء عَنْهَا، فَأجَاب الله دعاءه إِلَى آخر الْأَبَد. فَإِن قلت: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقدوم على الطَّاعُون، فَكيف قدمُوا الْمَدِينَة وَهِي وبيئة؟ قلت: كَانَ ذَلِك قبل النَّهْي، أَو أَن النَّهْي يخْتَص بالطاعون وَنَحْوه من الْمَوْت الذريع لَا الْمَرَض، وَإِن عَم. قَوْله: (قَالَت) ، يَعْنِي عَائِشَة، وَهُوَ مُتَّصِل بِمَا قبله فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا. قَوْله: (وَهِي) أَي: الْمَدِينَة (أَو بِأَرْض الله) ، وأوبأ بِالْهَمْزَةِ فِي آخِره على وزن أفعل التَّفْضِيل من الوباء أَي أَكثر وباء وَأَشد من غَيرهَا. قَوْله (فَكَانَ ب حَان بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَهُوَ وَاد فِي صحراء الْمَدِينَة قَوْله: قَوْله: (يجْرِي نجلاً) خبر كَانَ تَعْنِي مَاء آجنا، وَهُوَ من تَفْسِير الرَّاوِي، ونجلاً، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم، وَحكى ابْن التِّين فِيهِ نجلا بِفَتْح الْجِيم أَيْضا. وَقَالَ ابْن فَارس: النجل، بِفتْحَتَيْنِ سَعَة الْعين، وَقَالَ ابْن السّكيت: النجل النزُّ حِين يظْهر وينبع عين المَاء، وَقَالَ الحربن: نجلاً أَي: وَاسِعًا، وَمِنْه: عين نجلاء، أَي: وَاسِعَة. وَقيل: هُوَ الغدير الَّذِي لَا يزَال فِيهِ المَاء، وغرض عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بذلك بَيَان السَّبَب فِي كَثْرَة الوباء بِالْمَدِينَةِ، لِأَن المَاء الَّذِي هَذِه صفته يحدث عِنْده الْمَرَض. قَوْله: (تَعْنِي مَاء آجنا) ، هَذَا من كَلَام الرَّاوِي، أَي: تَعْنِي عَائِشَة من قَوْلهَا: يجْرِي مَاء آجنا: الآجن بِالْمدِّ المَاء الْمُتَغَيّر الطّعْم واللون، يُقَال فِيهِ: أجن وأجن ياجن وياجن أجنا وأجونا فَهُوَ آجن بِالْمدِّ، وأجن. قَالَ عِيَاض: هَذَا تَفْسِير خطأ مِمَّن فسره، فَلَيْسَ المُرَاد هُنَا المَاء الْمُتَغَيّر، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن عَائِشَة قَالَت: (ذَلِك فِي مقَام التَّعْلِيل لكَون الْمَدِينَة كَانَت وبيئة، وَلَا شكّ أَن النجل إِذا فسر بِكَوْن المَاء الْحَاصِل من النز فَهُوَ بصدد أَن يتَغَيَّر، وَإِذا تغير كَانَ اسْتِعْمَاله مِمَّا يحدث الوباء فِي الْعَادة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَيَانه أَن الله لما ابتلى نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْهِجْرَةِ وفراق الوطن ابتلى أَصْحَابه بالأمراض، فَتكلم كل إِنْسَان بِمَا فِيهِ، فَأَما أَبُو بكر فَتكلم بِأَن الْمَوْت شَامِل لِلْخلقِ فِي الصَّباح والمساء، وَأما بِلَال فتمنى الرُّجُوع إِلَى وَطنه، فَانْظُر إِلَى فضل أبي بكر على غَيره. وَفِيه: فِي دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يحبب الله لَهُم الْمَدِينَة حجَّة وَاضِحَة على من كذب، بِالْقدرِ، لِأَن الله عز وَجل هُوَ الْمَالِك للنفوس يحبب إِلَيْهَا مَا شَاءَ، وَيبغض، فَأجَاب الله دَعْوَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحبوا الْمَدِينَة حبا دَامَ فِي نُفُوسهم إِلَى أَن مَاتُوا عَلَيْهِ. وَفِيه: رد على الصُّوفِيَّة إِذْ قَالُوا: إِن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلَاّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِجَمِيعِ مَا نزل بِهِ، وَلَا يَدْعُو الله فِي كشف ذَلِك عَنهُ، فَإِن دَعَا فَلَيْسَ فِي الْولَايَة كَامِلا. وَفِيه: حجَّة على بعض الْمُعْتَزلَة الْقَائِلين بِأَن لَا فَائِدَة فِي الدُّعَاء مَعَ سَابق الْقدر، وَالْمذهب أَن الدُّعَاء عبَادَة مُسْتَقلَّة وَلَا يُسْتَجَاب مِنْهُ إلَاّ مَا سبق بِهِ التَّقْدِير. وَفِيه: جَوَاز هَذَا النَّوْع من الْغناء. وَفِيه مَذَاهِب: فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَعِكْرِمَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَحَمَّاد وَالثَّوْري وَجَمَاعَة من أهل الْكُوفَة: إِلَى تَحْرِيم الْغناء، وَذهب آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَته، نقل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من أَصْحَابه، وَحكي ذَلِك عَن مَالك وَأحمد، وَذهب آخَرُونَ إِلَى إِبَاحَته لَكِن بِغَيْر هَذِه الْهَيْئَة الَّتِي تعْمل الْآن، فَمن الصَّحَابَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكره أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) وَعُثْمَان، ذكره الْمَاوَرْدِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، ذكره ابْن أبي شيبَة وَسعد ابْن أبي وَقاص وَابْن عمر ذكرهمَا ابْن قُتَيْبَة، وَأَبُو مَسْعُود البدري وَأُسَامَة بن زيد، وبلال وخوات بن جُبَير ذكرهمَا الْبَيْهَقِيّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute