للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وَلكُل امرىء مَا نوى) ، كَانَ يفوت قَصده التَّنْبِيه على ثَلَاث تراجم، وَإِنَّمَا كَانَ يفهم مِنْهُ ترجمتان: الأولى: من قَوْله (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَلكُل امرىء مَا نوى) وَالثَّانيَِة: من قَوْله (والحسبة) فَانْظُر إِلَى هَذِه النكات، هَل ترى شارحا ذكرهَا أَو حام حولهَا؟ وكل ذَلِك بالفيض الإل هِيَ والعناية الرحمانية.

الْوَجْه الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْأَعْمَال الَّتِي يدْخل بهَا العَبْد الْجنَّة، وَلَا يكون الْعَمَل عملا إلَاّ بِالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص، فَلذَلِك ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب الْمَذْكُور. وَأَيْضًا فَالْبُخَارِي أَدخل الْإِيمَان فِي جملَة الْأَعْمَال، فَيشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، وَهُوَ اعْتِقَاد الْقلب بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة: أَن الْإِيمَان قَول بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب، أَلا يرى إِلَى تأكيده بقوله: (فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله) إِلَى آخر الحَدِيث.

الْوَجْه الثَّالِث: إِن الْحِسْبَة، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، اسْم من الاحتساب، وَالْجمع: الْحسب. يُقَال: احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد الله، أَي: اعتددته أنوي بِهِ وَجه الله تَعَالَى. وَمِنْه قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (من صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . وَفِي حَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ: (يَا أَيهَا النَّاس! احتسبوا أَعمالكُم، فَإِن من احتسب عمله كتب لَهُ أجر عمله وَأجر حسبته) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد الله، وَالِاسْم: الْحِسْبَة، بِالْكَسْرِ، وَهِي الْأجر. وَكَذَا قَالَ فِي (الْعباب) : الْحِسْبَة بِالْكَسْرِ: الْأجر، وَيُقَال: إِنَّه يحسن الْحِسْبَة فِي الْأَمر: إِذا كَانَ حسن التَّدْبِير لَهُ والحسبة، أَيْضا: من الْحساب. مِثَال: الْعقْدَة وَالركبَة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: احتسبت عَلَيْهِ بِكَذَا، أَي: أنكرته عَلَيْهِ. وَمِنْه: محتسب الْبَلَد، واحتسب فلَان ابْنا أَو بِنْتا، إِذا مَاتَ وَهُوَ كَبِير، فَإِن مَاتَ صَغِيرا قيل: افترطه. وَقَالَ ابْن السّكيت: احتسبت فلَانا: اختبرت مَا عِنْده، وَالنِّسَاء يحتسبن مَا عِنْد الرِّجَال لَهُنَّ: أَي يختبرن. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالحسبة طلب الثَّوَاب. قلت: لم يقل أحد من أهل اللُّغَة: إِن الْحِسْبَة طلب الثَّوَاب، بل مَعْنَاهَا مَا ذَكرْنَاهُ من أَصْحَاب اللُّغَات، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ أَيْضا مَا يشْعر بِمَعْنى الطّلب، وَإِنَّمَا الْحِسْبَة هُوَ: الثَّوَاب، على مَا فسره الْجَوْهَرِي، وَالثَّوَاب: هُوَ الْأجر على أَنه لَا يُفَسر بِهِ فِي كل مَوضِع، أَلا ترى إِلَى حَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ: فَإِن فِيهِ أجر حسبته، وَلَو فسرت الْحِسْبَة بِالْأَجْرِ فِي كل الْمَوَاضِع يصير الْمَعْنى فِيهِ: كتب لَهُ أجر عمله وَأجر أجره، وَهَذَا لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لَهُ أجر عمله وَأجر احتساب عمله، وَهُوَ إخلاصه فِيهِ. أَو الْمَعْنى: من اعْتد عمله نَاوِيا، كتب لَهُ أجر عمله وَأجر نِيَّته.

فَدَخَلَ فيهِ: الإيمانُ والوضُوء والصَّلاةُ والزَّكاةُ والحَجُّ والصَّوْم والأحْكامُ

هَذَا من مقول البُخَارِيّ لَا من تَتِمَّة مَا جَاءَ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ماصرح بِهِ فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر، فَقَالَ: قَالَ أَبُو عبد الله فَدخل فِيهِ الْإِيمَان إِلَخ، وَالْمرَاد بِأبي عبد الله هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه. فَإِن قلت: مَا الْفَاء فِي قَوْله: فَدخل؟ قلت: فَاء جَوَاب شَرط مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِذا كَانَ الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ فَدخل فِيهِ الْإِيمَان ... الخ، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى مَا تقدم من قَوْله: بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ ... الخ، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور.

ثمَّ اعْلَم أَنه ذكر هُنَا سَبْعَة أَشْيَاء:

الأول: الْإِيمَان، فَدَخَلُوا فِي ذَلِك على مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ من أَن الْإِيمَان عمل، وَقد علم أَن معنى الْإِيمَان إِمَّا التَّصْدِيق أَو معرفَة الله تَعَالَى بِأَنَّهُ وَاحِد لَا شريك لَهُ، وكل مَا جَاءَ من عِنْده حق، فَإِن كَانَ المُرَاد الأول فَلَا دخل للنِّيَّة فِيهِ، لِأَن الشَّارِع قَالَ: الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، والأعمال حركات الْبدن، وَلَا دخل للقلب فِيهِ. وَإِن كَانَ المُرَاد الثَّانِي، فدخول النِّيَّة فِيهِ محَال، لِأَن معرفَة الله تَعَالَى، لَو توقفت على النِّيَّة، مَعَ أَن النِّيَّة قصد الْمَنوِي بِالْقَلْبِ، لزم أَن يكون عَارِفًا بِاللَّه قبل مَعْرفَته، وَهُوَ محَال، وَلِأَن الْمعرفَة، وَكَذَا الْخَوْف والرجاء، متميزة لله تَعَالَى بصورتها، وَكَذَا التَّسْبِيح وَسَائِر الْأَذْكَار والتلاوة لَا يحْتَاج شَيْء مِنْهَا إِلَى نِيَّة التَّقَرُّب.

الثَّانِي: الْوضُوء، فدخوله فِي ذَلِك على مذْهبه، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَعَامة أَصْحَاب الحَدِيث، وَعَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حييّ: لَا يدْخل، وَقَالُوا: لَيْسَ الْوضُوء عبَادَة مُسْتَقلَّة، وَإِنَّمَا هِيَ وَسِيلَة إِلَى الصَّلَاة. وَقَالَ الْخصم: ونوقضوا بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ وَسِيلَة، وَقد اشْترط الْحَنَفِيَّة النِّيَّة فِيهِ. قلت: هَذَا التَّعْلِيل ينْتَقض بتطهير الثَّوْب وَالْبدن عَن الْخبث، فَإِنَّهُ طَهَارَة، وَلم يشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، فَإِن قَالُوا: الْوضُوء تَطْهِير حكمي ثَبت شرعا غير مَعْقُول، لِأَن لَا يعقل فِي الْمحل نَجَاسَة تَزُول بِالْغسْلِ إِذْ الْأَعْضَاء طَاهِرَة حَقِيقَة وَحكما، إِمَّا حَقِيقَة فَظَاهر، وَأما حكما فَلِأَنَّهُ لَو صلى إِنْسَان وَهُوَ حَامِل مُحدث جَازَت الصَّلَاة، وَإِذا ثَبت أَنه تعبدي، وَحكم الشَّرْع بِالنَّجَاسَةِ فِي حق الصَّلَاة فَجَعلهَا كالحقيقة، كَانَ مثل التَّيَمُّم، حَيْثُ جعل الشَّارِع مَا لَيْسَ بمطهر حَقِيقَة مطهرا حكما، فَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة كالتيمم، تَحْقِيقا لِمَعْنى التَّعَبُّد إِذْ

<<  <  ج: ص:  >  >>