(فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: أَقْسَمت عَلَيْك لتركبن دَابَّتي فَإِنَّهَا بِالْبَابِ، ولتذهبن إِلَى أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه، فَركب عبد الرَّحْمَن وَركبت مَعَه) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: وَركبت مَعَ عبد الرَّحْمَن، فَهَذِهِ تخَالف رِوَايَة الْكتاب، فَإِن العقيق غير ذِي الحليفة، لِأَن العقيق وَاد بِظَاهِر الْمَدِينَة مسيل للْمَاء، وَهُوَ الَّذِي ورد ذكره فِي الحَدِيث أَنه وادٍ مبارك، وكل مسيل شقَّه مَاء السَّيْل فَهُوَ عقيق، وَالْجمع أعقة. قلت: لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ من حَيْثُ إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَت لَهُ أَرض أَيْضا بالعقيق، فَالظَّاهِر أَن أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا أَبَا هُرَيْرَة للاجتماع لَهُ امتثالاً لأمر مَرْوَان، فَأتيَا إِلَى العقيق بِنَاء على أَنه هُنَاكَ فَلم يجداه، فذهبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ. فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر: فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْكُمَا لما ذهبتما إِلَى أبي هُرَيْرَة، قَالَ: فلقينا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بَاب الْمَسْجِد قلت: الْجَواب الْحسن هُنَا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد ذِي الحليفة، لأَنهم ذكرُوا أَن بِذِي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِد أبي هُرَيْرَة بالعقيق لَا الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. قلت: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا من مَنْهَج الصَّوَاب، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا فِي التَّوْفِيق بَين قَوْله: بِذِي الحليفة، وَقَوله: بالعقيق: يحْتَمل أَن يَكُونَا يَعْنِي: أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا إِلَى العقيق بِنَاء على أَن أَبَا هُرَيْرَة فِيهَا فَلم يجداه، قَالَ: ثمَّ وجداه بِذِي الحليفة، وَكَانَ لَهُ بهَا أَيْضا أَرض، وَمعنى كَلَامه: أَنَّهُمَا لما لم يجداه بالعقيق ذَهَبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ عِنْد بَاب الْمَسْجِد، فَيلْزم من مُقْتَضى كَلَامه أَنهم عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق ولاقياه فِيهَا عِنْد بَاب الْمَسْجِد، وَهَذَا كَلَام خَارج أَجْنَبِي عَن مُقْتَضى معنى التَّرْكِيب، لأَنهم لَو كَانُوا عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق، كَيفَ كَانَ أَبُو بكر وَعبد الرَّحْمَن يَقُولَانِ: لَقينَا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بَاب الْمَسْجِد؟ وَالْحَال أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ مَعَهُمَا على مُقْتَضى كَلَامه؟ ثمَّ ذكر هَذَا الْقَائِل وَجها آخر أبعد من الأول، حَيْثُ قَالَ: أَو يجمع بِأَنَّهُمَا التقيا بالعقيق، فَذكر لَهُ عبد الرَّحْمَن الْقِصَّة مجملة، أَو لم يذكرهَا، بل شرع فِيهَا ثمَّ لم يتهيأ لَهُ ذكر تفصيلها وَسَمَاع جَوَاب أبي هُرَيْرَة إلَاّ بعد أَن رجعا إِلَى الْمَدِينَة، وأرادا دُخُول الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. قلت: الَّذِي حمله على هَذَا التَّفْسِير تَفْسِيره الْمَسْجِد: بِمَسْجِد العقيق، وَلَو فسره بِمَسْجِد ذِي الحليفة لاستراح وأراح، على أَنا نقُول: من قَالَ: إِنَّه كَانَ لأبي هُرَيْرَة مَسْجِد بالعقيق، وَأما الْمَسْجِد الَّذِي بِذِي الحليفة فقد نَص عَلَيْهِ أهل السّير والإخباريون، وَلَا دلَالَة أصلا فِي الحَدِيث على هَذَا التَّوْجِيه الَّذِي ذكره، وَلَا قَالَ بِهِ أحد قبله. قَوْله: (إِنِّي ذَاكر أمرا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إِنِّي أذكر لَك) ، بِصِيغَة الْمُضَارع. قَوْله: (لم أذكرهُ لَك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لم أذكر ذَلِك) . قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس) ، وَقد أحَال أَبُو هُرَيْرَة فِيهِ مرّة على الْفضل، وَمرَّة على أُسَامَة بن زيد فِيمَا رَوَاهُ عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده، وَمرَّة قَالَ: أخبرنيه مخبر، وَمرَّة قَالَ: حَدثنِي فلَان وَفُلَان، فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان عَن عبد الْملك بن أبي بكر عَن أَبِيه عَنهُ على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لَا وَرب هَذَا الْبَيْت، مَا أَنا قلت: من أدْرك الصُّبْح جنبا فَلَا يصم مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرب الْكَعْبَة قَالَه. ثمَّ حَدَّثَنِيهِ الْفضل) . قَوْله: (وَهُوَ أعلم) أَي: الْفضل أعلم مني بِمَا روى، والعهدة عَلَيْهِ فِي ذَلِك لَا عَليّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان الحكم الَّذِي بوب الْبَاب لأَجله. وَفِيه: دُخُول الْفُقَهَاء على السُّلْطَان ومذاكرتهم لَهُ بِالْعلمِ. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ مَرْوَان من الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ومسائل الدّين، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الدُّنْيَا، ومروان عِنْدهم أحد الْعلمَاء وَكَذَلِكَ ابْنه عبد الْملك. وَفِيه: مَا يدل على أَن الشَّيْء إِذا تنوزع فِيهِ رد إِلَى من يظنّ أَنه يُوجد عِنْده علم مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم النَّاس بِهَذَا الْمَعْنى بعده. وَفِيه: أَن من كَانَ عِنْده علم فِي شَيْء وَسمع بِخِلَافِهِ كَانَ عَلَيْهِ إِنْكَاره، من ثِقَة سمع ذَلِك أَو غَيره، حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ صِحَة خلاف مَا عِنْده. وَفِيه: أَن الْحجَّة القاطعة عِنْد الِاخْتِلَاف فِيمَا لَا نَص فِيهِ من الْكتاب وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: إِثْبَات الْحجَّة فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل وَأَن الْمَرْأَة فِي ذَلِك كَالرّجلِ سَوَاء، وَأَن طَرِيق الْإِخْبَار فِي هَذَا غير طَرِيق الشَّهَادَات. وَفِيه: طلب الْحجَّة وَطلب الدَّلِيل والبحث على الْعلم حَتَّى يَصح فِيهِ وَجه، أَلا ترى أَن مرواه لما أخبرهُ عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة بِمَا أخبرهُ بِهِ من هَذَا الحَدِيث، بعث إِلَى أبي هُرَيْرَة طَالبا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute