للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومجدح أَي مخوض، والمجدح عود ذُو جَوَانِب، وَقيل: هُوَ عود يعرض رَأسه، وَالْجمع مجاديح. قَوْله: (الشَّمْس!) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذِه الشَّمْس يَعْنِي مَا غربت الْآن، وَيجوز فِيهِ النصب على معنى: انْظُر الشَّمْس، وَهَذَا ظن مِنْهُ أَن الْفطر لَا يحل إلَاّ بعد ذَلِك، لما رأى من ضوء الشَّمْس ساطعا، وَإِن كَانَ جرمها غَائِبا، يُؤَيّدهُ قَوْله: (إِن عَلَيْك نَهَارا) ، وَهُوَ معنى: (لَو أمسيت) فِي رِوَايَة أَحْمد، أَي: تَأَخَّرت حَتَّى يدْخل الْمسَاء، وتكريره الْمُرَاجَعَة لغَلَبَة اعْتِقَاده أَن ذَلِك نَهَار يحرم فِيهِ الْأكل مَعَ تجويزه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم ينظر إِلَى ذَلِك الضَّوْء نظرا تَاما، فقصد زِيَادَة الْإِعْلَام، فَأَعْرض، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الضَّوْء وَاعْتبر غيبوبة الشَّمْس، ثمَّ بيَّن مَا يعتبره من لم يتَمَكَّن من رُؤْيَة جرم الشَّمْس، وَهُوَ إقبال الظلمَة من الْمشرق، فَإِنَّهَا لَا تقبل مِنْهُ إلَاّ وَقد سقط القرص، فَإِن قلت: الْمُرَاجَعَة معاندة، وَلَا يَلِيق ذَلِك للصحابي؟ قلت: قد ذكرنَا أَنه ظن، فَلَو تحقق أَن الشَّمْس غربت مَا توقف، وَإِنَّمَا توقف احْتِيَاطًا واستكشافا عَن حكم الْمَسْأَلَة. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات عَن الشَّيْبَانِيّ فِي ذَلِك، فَأكْثر مَا وَقع فِيهَا أَن الْمُرَاجَعَة وَقعت ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضهَا مرَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا مرّة وَاحِدَة، وَهُوَ مَحْمُول على أَن بعض الروَاة اختصر الْقِصَّة. قَوْله: (ثمَّ رمى بِيَدِهِ هَهُنَا) ، مَعْنَاهُ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمشرق، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم، (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ: إِذا غَابَتْ الشَّمْس من هَهُنَا، وَجَاء اللَّيْل من هَهُنَا فقد أفطر الصَّائِم) . وَفِي لفظ لَهُ: (ثمَّ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من هَهُنَا أَشَارَ بِيَدِهِ نَحْو الْمشرق فقد أفطر الصَّائِم. قَوْله: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل أقبل من هَهُنَا) أَي: من جِهَة الْمشرق. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي قَوْله: (إِذا أقبل اللَّيْل من هَهُنَا؟) . وَفِي لفظ مُسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من هَهُنَا؟ وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ، عَن عمر بن الْخطاب: (إِذا أقبل اللَّيْل وَأدبر النَّهَار وغربت الشَّمْس فقد أفطر) ، والإقبال والإدبار والغروب متلازمة لِأَنَّهُ لَا يقبل اللَّيْل إلَاّ إِذا أدبر النَّهَار، وَلَا يدبر النَّهَار إلَاّ إِذا غربت الشَّمْس. قلت: أجَاب القَاضِي عِيَاض: بِأَنَّهُ قد لَا يتَّفق مُشَاهدَة عين الْغُرُوب، ويشاهد هجوم الظلمَة حَتَّى يتَيَقَّن الْغُرُوب بذلك فَيحل الْإِفْطَار. وَقَالَ شَيخنَا الظَّاهِر إِن أُرِيد أحد هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ يعرف انْقِضَاء النَّهَار بِرُؤْيَة بَعْضهَا، وَيُؤَيِّدهُ اقْتِصَاره فِي حَدِيث ابْن أبي أوفى على إقبال اللَّيْل فَقَط، وَقد يكون الْغَيْم فِي الْمشرق دون الْمغرب أَو عَكسه، وَقد يُشَاهد مغيب الشَّمْس فَلَا يحْتَاج مَعَه إِلَى أَمر آخر. قَوْله: (فقد أفطر الصَّائِم) أَي: دخل وَقت الْإِفْطَار، لَا أَنه يصير مُفطرا بغيبوبة الشَّمْس، وَإِن لم يتَنَاوَل مُفطرا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الحَدِيث يدل على أَن الصَّوْم فِي السّفر فِي رَمَضَان أفضل من الْإِفْطَار، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ صَائِما وَهُوَ فِي السّفر فِي شهر رَمَضَان. وَقد اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب. فَمنهمْ من روى عَنهُ التَّخْيِير مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَأنس وَأَبُو سعيد وَسَعِيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَسَعِيد بن جبر وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث. وَذهب قوم إِلَى أَن الْإِفْطَار أفضل، مِنْهُم: عمر بن عبد الْعَزِيز وَالشعْبِيّ وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَت الشَّافِعِيَّة: الْفطر أفضل فِي السّفر، وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مُخَيّر وَلم يفصل، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن علية، وَقَالَ القَاضِي: مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الصَّوْم أفضل. وَمِمَّنْ كَانَ لَا يَصُوم فِي السّفر حُذَيْفَة. وَذهب قوم إِلَى أَن الصَّوْم أفضل، وَبِه قَالَ الْأسود بن يزِيد وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأَصْحَابه وَأَبُو ثَوْر، وَكَذَا روى عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَأنس بن مَالك، وَرُوِيَ عَن عمر وَابْنه وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس: إِن صَامَ فِي السّفر لم يجزه وَعَلِيهِ الْقَضَاء فِي الْحَضَر، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: الصَّائِم فِي السّفر كالمفطر فِي الْحَضَر، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر. وَمِمَّنْ كَانَ يَصُوم فِي السّفر وَلَا يفْطر عَائِشَة وَقيس بن عباد وَأَبُو الْأسود وَابْن سِيرِين وَابْن عمر وَابْنه سَالم وَعَمْرو بن مَيْمُون وَأَبُو وَائِل، وَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ حَمَّاد بن يزِيد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن عُبَيْدَة عَنهُ: من أدْرك رَمَضَان وَهُوَ مُقيم ثمَّ سَافر فقد لزمَه الصَّوْم، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} (الْبَقَرَة: ٥٨١) . وَقَالَ أَبُو مجلز: لَا يُسَافر أحد فِي رَمَضَان، فَإِن سَافر فليصم، وَقَالَ أَحْمد: يُبَاح لَهُ الْفطر، فَإِن صَامَ كره وأجزأه، وَعنهُ: الْأَفْضَل الْفطر، وَقَالَ أَحْمد: كَانَ عمر وَأَبُو هُرَيْرَة يأمران بِالْإِعَادَةِ، يَعْنِي إِذا صَامَ. وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيّ فِي (شرح مُخْتَصر الطَّحَاوِيّ) : الْأَفْضَل أَن يَصُوم فِي السّفر إِذا لم يُضعفهُ الصَّوْم، فَإِن أضعفه ولحقه مشقة بِالصَّوْمِ بِالْفطرِ أفضل، فَإِن أفطر من غير مشقة لَا يَأْثَم، وَبِمَا قُلْنَاهُ قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْمَذْهَب.

<<  <  ج: ص:  >  >>