ابْن حزم النَّقْل عَن اللَّيْث بن سعد وَأبي ثَوْر وَدَاوُد أَنه فرض على أوليائه، هم أَو بَعضهم، وَبِه صرح القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ فِي تَعْلِيقه بِأَن المُرَاد مِنْهُ الْوُجُوب، وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) من غير أَن يعزوه إِلَى أحد، وَزَاد فِي (شرح الْمُهَذّب) فَقَالَ: إِنَّه بِلَا خلاف. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: هَذَا عَجِيب مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن أحد قولي الشَّافِعِي: إِنَّه يسْتَحبّ لوَلِيِّه أَن يَصُوم عَنهُ، ثمَّ قَالَ: وَلَا يجب عَلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ أَصْحَاب الحَدِيث فأجازوا الصّيام عَن الْمَيِّت، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأَبُو ثَوْر وطاووس وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَاللَّيْث بن سعد وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ وَابْن حزم، سَوَاء كَانَ عَن صِيَام رَمَضَان أَو عَن كَفَّارَة أَو عَن نذر، وَرجح الْبَيْهَقِيّ وَالنَّوَوِيّ القَوْل الْقَدِيم للشَّافِعِيّ لصِحَّة الْأَحَادِيث فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله فِي (شرح مُسلم) : إِنَّه الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نعتقده، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ محققو أَصْحَابه الجامعيين بَين الْفِقْه والْحَدِيث لقُوَّة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة، وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) : من كَانَ عَلَيْهِ صَوْم فَلم يقضه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ صَامَ عَنهُ وليه أَو أطْعم عَنهُ على قَوْله فِي الْقَدِيم، وَهَذَا ظَاهر أَن الْقَدِيم تَخْيِير الْوَلِيّ بَين الصّيام وَالْإِطْعَام، وَبِه صرح النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) قلت: لَيْسَ القَوْل الْقَدِيم مذهبا لَهُ فَإِنَّهُ غسل كتبه الْقَدِيمَة وَأشْهد على نَفسه بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، هَكَذَا نقل ذَلِك عَنهُ أَصْحَابه.
ثمَّ إعلم أَن فِي هَذَا الْبَاب اخْتِلَافا كثيرا وأقوالاً. الأول: مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَالثَّانِي: هُوَ أَن يطعم الْوَلِيّ عَن الْمَيِّت كل يَوْم مِسْكينا مدا من قَمح، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْحَدِيد، وَأَنه لَا يَصُوم أحد عَن أحد، وَإِنَّمَا يطعم عَنهُ عِنْد مَالك إِذا أوصى بِهِ. وَالثَّالِث: يطعم عَنهُ كل يَوْم نصف صَاع، روى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ. وَالرَّابِع: يطعم عَنهُ عَن كل يَوْم صَاعا من غير الْبر، وَنصف صَاع من الْبر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَهَذَا إِذا أوصى بِهِ، فَإِن لم يوصِ فَلَا يطعم عَنهُ. الْخَامِس: التَّفْرِقَة بَين صَوْم رَمَضَان وَبَين صَوْم النّذر، فيصوم عَنهُ وليه مَا عَلَيْهِ من نذر. وَيطْعم عَنهُ عَن كل يَوْم من رَمَضَان مدا، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن أبي عبيد أَيْضا. وَالسَّادِس: أَنه لَا يَصُوم عَنهُ الْأَوْلِيَاء إلَاّ إِذا لم يَجدوا مَا يطعم عَنهُ، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَالْأَوْزَاعِيّ.
وَحجَّة أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة، وَمن تَبِعَهُمْ فِي هَذَا الْبَاب، فِي أَن: من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام لَا يَصُوم عَنهُ أحد، وَلكنه إِن أوصى بِهِ أطْعم عَنهُ وليه كل يَوْم مِسْكين نصف صَاع من بر أَو صَاعا من تمر أَو شعير، مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يُصَلِّي أحد عَن أحد، وَلَكِن يطعم عَنهُ) . وَعَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم شهر فليطعم عَنهُ مَكَان كل يَوْم مِسْكين) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي (شرح الْمُوَطَّأ) إِسْنَاده حسن. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا عَبْثَر بن الْقَاسِم عَن أَشْعَث عَن مُحَمَّد عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: (لَا نعرفه مَرْفُوعا إلَاّ من هَذَا الْوَجْه، وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر مَوْقُوف، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن قُتَيْبَة، إلَاّ أَنه قَالَ: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن نَافِع، وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي: وَهُوَ وهم، وَقَالَ شَيخنَا: وَقد شكّ عَبْثَر فِي مُحَمَّد هَذَا فَلم يعرف من هُوَ، كَمَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة الْوَلِيد بن شُجَاع عَن عَبْثَر بن أبي زبيد عَن الْأَشْعَث عَن مُحَمَّد، لَا يدْرِي أَبُو زبيد عَن مُحَمَّد، فَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ ابْن عدي بعده، وَمُحَمّد هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا أعلمهُ يرويهِ عَن أَشْعَث غير عَبْثَر، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة يزِيد بن هَارُون عَن شريك عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن نَافِع (عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الَّذِي يَمُوت وَعَلِيهِ رَمَضَان وَلم يقضه، قَالَ: يطعم عَنهُ لكل يَوْم نصف صَاع من بر، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا خطأ من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: رَفعه الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن عمر. وَالْآخر: قَوْله: نصف صَاع، وَإِنَّمَا قَالَ: مدا من حِنْطَة، وَضَعفه عبد الْحق فِي أَحْكَامه بأشعث وَابْن أبي ليلى.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (علله) : الْمَحْفُوظ مَوْقُوف، هَكَذَا رَوَاهُ عبد الْوَهَّاب بن بخت عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) ؛ لَا يَصح هَذَا الحَدِيث، فَإِن مُحَمَّد بن أبي ليلى كثير الْوَهم، وَرَوَاهُ أَصْحَاب نَافِع عَن نَافِع عَن ابْن عمر. قَوْله: قلت: رفع هَذَا الحَدِيث قُتَيْبَة فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن عَبْثَر
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute