قلت: أَيَّام الْبيض، لكَونهَا وسط الشَّهْر، ووسط الشَّهْر أعدله، وَلِأَن الْكُسُوف غَالِبا يَقع فِيهَا، فَإِذا اتّفق الْكُسُوف صَادف الَّذِي يعتاده صِيَام الْبيض صَائِما فيتهيأ أَن يجمع بَين أَنْوَاع الْعِبَادَات من الصّيام وَالصَّلَاة وَالصَّدَََقَة، بِخِلَاف من لم يصمها فَإِنَّهُ لَا يتهيأ لَهُ اسْتِدْرَاك صيامها.
فَإِن قلت: قَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر صَحِيح، وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي صِيَام الْبيض: قد رُوِيَ فِي إِبَاحَة تعمدها بِالصَّوْمِ أَحَادِيث لَا تثبت. قلت: بل فِي التَّعْيِين أَحَادِيث صَحِيحَة. مِنْهَا: حَدِيث جرير، فَهُوَ صَحِيح لَا اخْتِلَاف فِيهِ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَقد صَححهُ من الْمَالِكِيَّة أَبُو الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ فِي (الْمُفْهم) وَفِيه تعْيين الْبيض. وَمِنْهَا: حَدِيث قُرَّة بن إِيَاس الْمُزنِيّ فَهُوَ صَحِيح أَيْضا لَا اخْتِلَاف فِيهِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الكبيرُّ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد التمار الْبَصْرِيّ، حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا شُعْبَة عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صِيَام الْبيض صِيَام الدَّهْر وإفطاره) ، وقرة هُوَ ابْن إِيَاس بن هِلَال بن ذياب الْمُزنِيّ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَلَكِن لَيْسَ عِنْده تعْيين الْبيض. وَصحح ابْن حبَان أَيْضا حَدِيث أبي ذَر وَحَدِيث عبد الْملك ابْن منهال عَن أَبِيه فِي تعْيين الْأَيَّام الْبيض، وَصحح أَيْضا حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي تعْيين غرَّة الشَّهْر. فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الإِمَام أَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن عَطاء الإبراهيمي من حَدِيث يُونُس بن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن أبي صَادِق (عَن أبي هُرَيْرَة: أَوْصَانِي خليلي بِثَلَاث: الْوتر قبل أَن أَنَام، وأصلي الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، وَصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر: ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة، وَهِي الْبيض) . وَحَدِيث أبي ذَر رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُوسَى بن طَلْحَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا ذَر يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أَبَا ذَر! إِذا صمت من الشَّهْر ثَلَاثَة أَيَّام فَصم ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة) ، وَقَالَ: حَدِيث أبي ذَر حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَحَدِيث عبد الْملك بن منهال قد مر عَن قريب.
وَأما حكم الْمَسْأَلَة، فقد حكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) الِاتِّفَاق على اسْتِحْبَاب صِيَام الْأَيَّام الْبيض، وَهِي: الثَّالِث عشر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس عشر، قَالَ: وَقيل: هِيَ الثَّانِي عشر وَالثَّالِث عشر وَالرَّابِع عشر، وَقَالَ شَيخنَا، وَفِيمَا حَكَاهُ من الِاتِّفَاق نظر، فقد روى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك فِي (الْمَجْمُوعَة) أَنه سُئِلَ عَن صِيَام أَيَّام الغر: ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة؟ فَقَالَ: مَا هَذَا ببلدنا، وَكره تعمد صَومهَا، وَقَالَ: الْأَيَّام كلهَا لله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن وهب: وَإنَّهُ لعَظيم أَن يَجْعَل على نَفسه شَيْئا كالفرض، وَلَكِن يَصُوم إِذا شَاءَ، قَالَ: وَاسْتحبَّ ابْن حبيب صَومهَا، وَقَالَ: أَرَاهَا صِيَام الدَّهْر. وَقَالَ ابْن حبيب: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام: أول الْيَوْم وَيَوْم الْعَاشِر وَيَوْم الْعشْرين، وَيَقُول: هُوَ صِيَام الدَّهْر، كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا.
وَقَالَ شَيخنَا: وَحَاصِل الْخلاف أَن فِي الْمَسْأَلَة تِسْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: اسْتِحْبَاب صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من الشَّهْر غير مُعينَة، فَأَما تَعْيِينهَا فمكروه، وَهُوَ الْمَعْرُوف من مَذْهَب مَالك، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ. الثَّانِي: اسْتِحْبَاب الثَّالِث عشر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس عشر، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَبِه قَالَ عمر ابْن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَأَبُو ذَر وَآخَرُونَ من التَّابِعين، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة، وَأَبُو حنيفَة وصاحباه وَأحمد وَإِسْحَاق. الثَّالِث: اسْتِحْبَاب الثَّانِي عشر وَالثَّالِث عشر وَالرَّابِع عشر، حُكيَ ذَلِك عَن قوم. الرَّابِع: اسْتِحْبَاب ثَلَاثَة من أول الشَّهْر، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: اسْتِحْبَاب السبت والأحد والإثنين من أول شهر، ثمَّ الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس من أول الشَّهْر الَّذِي بعده، وَهُوَ اخْتِيَار عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي آخَرين. السَّادِس: استحبابها من آخر الشَّهْر، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. السَّابِع: استحبابها فِي الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس. الثَّامِن: اسْتِحْبَاب أول يَوْم الشَّهْر والعاشر وَالْعِشْرين، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي الدَّرْدَاء. التَّاسِع: اسْتِحْبَاب أول يَوْم وَالْحَادِي عشر، وَالْعِشْرين، وَهُوَ اخْتِيَار أبي إِسْحَاق ابْن شعْبَان من الْمَالِكِيَّة.
١٨٩١ - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أبُو التَّيَّاحِ قَالَ حدَّثني أبُو عُثْمَانَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أوْصَانِي خَلِيلي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثَلاثٍ صِيامِ ثلاثَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ورَكْعَتَيْ الضُّحَى وأنْ أُوتِرَ قَبْلَ أنْ أنَامَ. (انْظُر الحَدِيث ٨٧١١) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute