لفظ: أَن ينْفَرد بصومه، أَي: يَصُوم يَوْم الْجُمُعَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:(أَن ينْفَرد بِصَوْم) ، وَغير أبي عَاصِم هُوَ يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَقَالَ النَّسَائِيّ: حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ (عَن يحيى عَن ابْن جريج: (أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر، قَالَ: قلت لجَابِر: أسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْهَى أَن يفرد يَوْم الْجُمُعَة بِصَوْم؟ قَالَ: أَي وَرب الْكَعْبَة) . وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل، وَلَفظه:(أَن جَابر سُئِلَ عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة؟ فَقَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفرد) . وروى أَيْضا من طَرِيق حَفْص بن غياث، وَلَفظه:(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صِيَام يَوْم الْجُمُعَة مُنْفَردا) ، وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن الْمسيب (عَن عبد الله ابْن عَمْرو: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على جوَيْرِية بنت الْحَارِث يَوْم الْجُمُعَة وَهِي صَائِمَة، فَقَالَ لَهَا: (أصمتِ أمس؟ قَالَت: لَا، قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن تصومي غَدا. قَالَت: لَا، قَالَ: فأفطري) .
وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين (عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا الدَّرْدَاء؟ لَا تخص يَوْم الْجُمُعَة بصيام دون الْأَيَّام، وَلَا تخص لَيْلَة الْجُمُعَة بِقِيَام دون اللَّيَالِي) ، وَابْن سِيرِين لم يسمع من أبي الدَّرْدَاء، وَقد اخْتلف فِيهِ على ابْن سِيرِين، فَقيل: هَكَذَا، وَقيل: عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. وروى أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ:(لَا تَصُومُوا يَوْم الْجُمُعَة) ، وَفِي إِسْنَاده: الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبيد الله، وَثَّقَهُ ابْن معِين وَضَعفه الْجُمْهُور. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث بشير بن الخصاصية بِلَفْظ (لَا تصم يَوْم الْجُمُعَة إلَاّ فِي أَيَّام هُوَ أَحدهَا) ، وَرِجَاله ثِقَات. وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة صَالح بن جبلة (عَن أنس: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من صَامَ الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس وَالْجُمُعَة بنى الله لَهُ فِي الْجنَّة قصرا من لُؤْلُؤ وَيَاقُوت وَزَبَرْجَد، وَكتب لَهُ بَرَاءَة من النَّار) وَصَالح بن جبلة ضعفه الْأَزْدِيّ، فَفِي هَذَا صَوْم يَوْم الْجُمُعَة مَعَ يَوْم قبله، وروى الْبَزَّار من حَدِيث عَامر بن كَدين بِلَفْظ: إِن يَوْم الْجُمُعَة فَلَا تصوموه إلَاّ أَن تَصُومُوا يَوْمًا قبله أَو بعده) . وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة حُذَيْفَة الْبَارِقي (عَن جُنَادَة الْأَزْدِيّ: أَنهم دخلُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة نفر، وَهُوَ ثامنهم، فَقرب إِلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما يَوْم جُمُعَة، قَالَ: كلوا. قَالُوا: صِيَام! قَالَ: أصمتم أمس؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فصائمون غَدا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فأفطروا) .
فَإِن قلت: يُعَارض هَذِه الْأَحَادِيث مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَاصِم عَن زر (عَن عبد الله، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم من كل غرَّة شهر ثَلَاثَة أَيَّام وَقل مَا كَانَ يفْطر يَوْم الْجُمُعَة) ؟ وَقَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة حَدثنَا حَفْص حَدثنَا لَيْث عَن عُمَيْر بن أبي عُمَيْر (عَن ابْن عمر، قَالَ: مَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُفطرا يَوْم جُمُعَة قطّ) . وَمَا أخرجه أَيْضا عَن حَفْص عَن لَيْث عَن طَاوس (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا رَأَيْته مُفطرا يَوْم جُمُعَة قطّ) . قلت: لَا نسلم هَذِه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ لَا دلَالَة فِيهَا على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَامَ يَوْم الْجُمُعَة وَحده، فنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة فِي هَذِه الْأَحَادِيث يدل على أَن صَوْمه يَوْم الْجُمُعَة لم يكن فِي يَوْم الْجُمُعَة وَحده، بل إِنَّمَا كَانَ بِيَوْم قبله أَو بِيَوْم بعده، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يحمل فعله على مُخَالفَة أمره إلَاّ بِنَصّ صَرِيح صَحِيح، فَحِينَئِذٍ يكون نسخا أَو تَخْصِيصًا، وكل وَاحِد مِنْهُمَا مُنْتَفٍ.
وَأما حكم الْمَسْأَلَة فَاخْتَلَفُوا فِي صَوْم يَوْم الْجُمُعَة على خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: كَرَاهَته مُطلقًا، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَالزهْرِيّ وَمُجاهد، وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد حكى أَبُو عمر عَن أَحْمد وَإِسْحَاق كَرَاهَته مُطلقًا، وَنقل ابْن الْمُنْذر وَابْن حزم منع صَوْمه عَن عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وسلمان وَأبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وشبهوه بِيَوْم الْعِيد، فَفِي الحَدِيث الصَّحِيح: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:(إِن هَذَا يَوْم جعله الله عيدا) وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:(لَا صِيَام يَوْم عيد) .
القَوْل الثَّانِي: إِبَاحَته مُطلقًا من غير كَرَاهَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن، وَقَالَ مَالك: لم أسمع أحدا من أهل الْعلم وَالْفِقْه وَمن يَقْتَدِي بِهِ ينْهَى عَن صِيَام يَوْم الْجُمُعَة، قَالَ: وصيامه حسن.
القَوْل الثَّالِث: أَنه يكره إِفْرَاده بِالصَّوْمِ، فَإِن صَامَ يَوْمًا قبله أَو بعده لم يكره، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وطاووس وَأبي يُوسُف، وَفِي (كتاب الطّراز) : وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر، وَاخْتلف عَن الشَّافِعِي، فَحكى الْمُزنِيّ عَنهُ جَوَازه، وَحكى أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَنهُ كَرَاهَته، وَكَذَا حَكَاهُ ابْن الصّباغ عَن تَعْلِيق أبي حَامِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَبِه جزم الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) . وَقَالَ