فَإِذا كذبه الْمُدَّعِي فَعَلَيهِ الْبَيِّنَة، وَآيَة المداينة أطول آيَة فِي الْقُرْآن الْعَظِيم، وَهِي بِتَمَامِهَا مَكْتُوبَة فِي الْكتاب فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه إِلَى قَوْله إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . قَالَ: نزلت فِي السّلم إِلَى أجل مَعْلُوم. قَوْله: {إِذا تداينتم بدين} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: إِذا تبايعتم بدين: الدّين مَا كَانَ مُؤَجّلا، وَالْعين مَا كَانَت حَاضِرَة، يُقَال: دَان فلَان يدين دينا: اسْتقْرض وَصَارَ عَلَيْهِ دين، وَرجل مديون: كثر مَا عَلَيْهِ من الدّين، ومديان، بِكَسْر الْمِيم: إِذا كَانَ عَادَته أَن يَأْخُذ بِالدّينِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْمديَان: الْكثير الدّين الَّذِي عَلَيْهِ الدُّيُون، وَهُوَ مفعال من الدّين للْمُبَالَغَة، وَيُقَال للمديون، مَدين أَيْضا. قَوْله: {إِلَى أجل} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . الْأَجَل الْوَقْت الْمُسَمّى الْمَعْلُوم. قَوْله: {فاكتبوه} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: أثبتوه فِي كتاب بَين فِيهِ قدر الْحق وَالْأَجَل ليرْجع إِلَيْهِ وَقت التَّنَازُع وَالنِّسْيَان، وَلِأَنَّهُ يحصل مِنْهُ الْحِفْظ والتوثقة. فَإِن قلت: {فاكتبوه} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَمر من الله تَعَالَى، وَثَبت فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب) ، فَمَا الْجمع بَينهمَا؟ قلت: إِن الدّين من حَيْثُ هُوَ غير مفتقر إِلَى كِتَابَة أصلا لِأَن كتاب الله قد سهل الله حفظه على النَّاس وَالسّنَن أَيْضا مَحْفُوظَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي أَمر بكتابه إِنَّمَا هُوَ أَشْيَاء جزئية تقع بَين النَّاس، فَأمروا أَمر إرشاد لَا أَمر إِيجَاب، كَمَا ذهب إِلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور، فَإِن كتب فَحسن، وَإِن ترك فَلَا بَأْس. وَقَالَ أَبُو سعيد وَالشعْبِيّ وَالربيع بن أنس وَالْحسن وَابْن جريج وَابْن زيد وَآخَرُونَ: كَانَ ذَلِك وَاجِبا ثمَّ نسخ بقوله: {فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته} (الْبَقَرَة: ٣٨٢) . وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه مُحكم. قَوْله: {وليكتب بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: بِالْحَقِّ والإنصاف لَا يزِيد فِيهِ وَلَا ينقص وَلَا يقدم الْأَجَل وَلَا يُؤَخِّرهُ، وَيَنْبَغِي أَن يكون الْكَاتِب فَقِيها عَالما باخْتلَاف الْعلمَاء، أدبياً مُمَيّزا بَين الْأَلْفَاظ المتشابهة قَوْله: {وَلَا يأبَ كَاتب} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: لَا يمْتَنع كَمَا أَمر الله تَعَالَى من الْعدْل، وَيُقَال: وَلَا يمْتَنع من يعرف الْكِتَابَة إِذا سُئِلَ أَن يكْتب للنَّاس وَلَا ضَرُورَة عَلَيْهِ فِي ذَلِك، فَكَمَا علمه الله مَا لم يكن يعلم فليتصدق على غَيره مِمَّن لَا يحسن الْكِتَابَة، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: (إِن الصَّدَقَة أَن تعين صانعاً أَو تصنع لأخرق) . وَفِي الحَدِيث الآخر: (من كتم علما يُعلمهُ ألْجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار) . وَقَالَ مُجَاهِد وَعَطَاء: وَاجِب على الْكَاتِب أَن يكْتب. قَوْله: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . الإملال والإملاء لُغَتَانِ جَاءَ بهما الْقُرْآن، قَالَ تَعَالَى: {فَهِيَ تملي عَلَيْهِ} (الْفرْقَان: ٥) . وَقَالَ: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . يقر على نَفسه بِمَا عَلَيْهِ وَلَا ينقص من الْحق شَيْئا. قَالَ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: ظَاهر قَوْله عز وَجل: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . يدل على أَن القَوْل قَول من عَلَيْهِ الشَّيْء، وَقَالَ غَيره: لِأَن الله تَعَالَى حِين أمره بالإملاء اقْتضى تَصْدِيقه فِيمَا عَلَيْهِ، فَإِذا كَانَ مُصدقا فَالْبَيِّنَة على من يَدعِي تَكْذِيبه. قَوْله: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) أَي: مَحْجُورا عَلَيْهِ بتبذير وَنَحْوه، وَقيل: سَفِيها: أَي: جَاهِلا بالإملاء أَو طفْلا صَغِيرا. قَوْله: {أَو ضَعِيفا} أَي: عَاجِزا عَن مَصَالِحه، وَيُقَال: أَي: صَغِيرا أَو مَجْنُونا. قَوْله: {أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . إِمَّا بالعي أَو الخرس أَو العجمة أَو الْجَهْل بِموضع صَوَاب ذَلِك من خطائه. قَوْله: {فليملل وليه} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: من يقوم مقَامه، وَقيل: هُوَ صَاحب الدّين يملي دينه، وَالْأول أصح لِأَن فِي الثَّانِي رِيبَة. قَوْله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: من أهل ملتكم من الْأَحْرَار الْبَالِغين، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَأَجَازَ شُرَيْح وَابْن سِيرِين شَهَادَة العَبْد، وَهَذَا قَول أنس بن مَالك، وَأَجَازَ بَعضهم شَهَادَته فِي الشَّيْء التافه، وَإِنَّمَا أَمر بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتَابَة لزِيَادَة التوثقة. قَوْله: {فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: فَإِن لم يكن الشَّاهِدَانِ رجلَيْنِ. قَوْله: {فَرجل وَامْرَأَتَانِ} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: فالشاهد رجل، أَو الَّذِي يشْهد رجل وَامْرَأَتَانِ مَعَه، وأقيمت الْمَرْأَتَانِ مقَام الرجل لنُقْصَان عقل الْمَرْأَة، كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي (الصَّحِيح) . قَوْله: {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: مِمَّن كَانَ مرضياً فِي دينه وأمانته وكفايته، وَفِيه كَلَام كثير مَوْضِعه غير هَذَا. قَوْله: {أَن تضل إِحْدَاهمَا} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وانتصابه على أَنه مفعول لَهُ أَي: إِرَادَة أَن تضل، وَقَرَأَ حَمْزَة أَن تضل أحداهما، على الشَّرْط، وَمعنى الضلال هُنَا عبارَة عَن النسْيَان، وقابل النسْيَان بالتذكر لِأَنَّهُ يعادله، وقرىء: فَتذكر، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وهما لُغَتَانِ. قَوْله: {وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا} (الْبَقَرَة: ٢٨٢) . أَي: لَا يمْتَنع الشُّهُود إِذا مَا طلبُوا لتحمل الشَّهَادَة، وإثباتها فِي الْكتاب، وَقيل: لإقامتها وأدائها عِنْد الْحَاكِم، وَقيل: للتحمل وَالْأَدَاء جَمِيعًا، وَهَذَا أَمر ندب، وَقيل: فرض كِفَايَة، وَقيل: فرض عين، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَالربيع،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute