أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي شَهَادَة الزُّور من التَّغْلِيظ والوعيد، والزور وصف الشَّيْء بِخِلَاف صفته، فَهُوَ تمويه الْبَاطِل بِمَا يُوهم أَنه حق، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: الْكَذِب.
لِقَوْلِ الله عزَّ وجَلَّ {والَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (الْفرْقَان: ٢٧) .
ذكره هَذِه الْقطعَة من الْآيَة فِي معرض التَّعْلِيل لما قيل فِي شَهَادَة الزُّور من الْوَعيد والتهديد لَا وَجه لَهُ، لِأَن الْآيَة سيقت فِي مدح الَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور، وَمَا قبلهَا أَيْضا فِي مدح التائبين العاملين الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَتَمام الْآيَة أَيْضا مدح فِي الَّذين إِذا سمعُوا اللَّغْو مروا كراماً، وَمَا بعْدهَا أَيْضا من الْآيَات كَذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ إِلَى أَن الْآيَة سيقت فِي ذمّ متعاطي شَهَادَة الزُّور، وَهُوَ اخْتِيَار لأحد مَا قيل فِي تَفْسِيرهَا. انْتهى. قلت: مَا سيقت الْآيَة، إلَاّ فِي مدح تاركي شَهَادَة الزُّور، كَمَا قُلْنَا. وَقَوله: وَهُوَ اخْتِيَار لأحد مَا قيل فِي تَفْسِيرهَا، لم يقل بِهِ أحد من الْمُفَسّرين، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الزُّور، فَقَالَ أَكْثَرهم: الزُّور والشرك، وَقيل: شَهَادَة الزُّور، قَالَه ابْن طَلْحَة وَقيل: الْمُشْركُونَ، وَقيل: الصَّنَم، وَقيل: مجَالِس الخناء، وَقيل: مجْلِس كَانَ يشْتم فِيهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: العهود على الْمعاصِي.
وكِتْمَانِ الشِّهادةِ
وكتمان، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فِي شَهَادَة الزُّور، أَي: وَمَا قيل فِي كتمان الشَّهَادَة بِالْحَقِّ من الْوَعيد والتهديد.
لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ومَنْ يَكْتُمْها فإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَة: ٣٨٢) .
هَذَا التَّعْلِيل فِي مَحَله، أَي: وَلَا تخفوا الشَّهَادَة، إِذا دعيتم إِلَى إِقَامَتهَا، وَمن كتمانها ترك التَّحَمُّل عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ. قَوْله: {فَإِنَّهُ آثم قلبه} (الْبَقَرَة: ٣٨٢) . أَي: فَاجر قلبه، وَخَصه بِالْقَلْبِ لِأَن الكتمان يتَعَلَّق بِهِ، لِأَنَّهُ يضمره فِيهِ فأسند إِلَيْهِ {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} (الْبَقَرَة: ٣٨٢) . أَي: يجازي على أَدَاء الشَّهَادَة وكتمانها.
تَلْوُوا ألْسِنَتَكُمْ بِالشَّهادَةِ
أَشَارَ بقوله: تلووا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} (النِّسَاء: ٥٣١) . أَي: وَإِن تلووا أَلْسِنَتكُم بِالشَّهَادَةِ، وروى الطَّبَرِيّ عَن الْعَوْفِيّ فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: وتلوي لسَانك بِغَيْر الْحق، وَهِي اللجلجة، فَلَا تقيم الشَّهَادَة على وَجههَا. وتلووا من اللي، وَأَصله اللوي. قَالَ الْجَوْهَرِي: لوى الرجل رَأسه وألوى بِرَأْسِهِ، أقَال وَأعْرض. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن تلووا أَو تعرضوا} (النِّسَاء: ٥٣١) . بواوين، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ القَاضِي يكون ليه وإعراضه لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر، وَقد قرىء بواو وَاحِدَة مَضْمُومَة اللَّام من: وليت، وَقَالَ مُجَاهِد: أَي إِن تلووا الشَّهَادَة فتقيموها أَو تعرضوا عَنْهَا فتتركوها، فَإِن الله يجازيكم عَلَيْهِ، قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَو فصل البُخَارِيّ بَين لفظ: تلووا، وَلَفظ: أَلْسِنَتكُم، بِمثل: أَي، أَو: يَعْنِي، ليتميز الْقرَان عَن كَلَامه لَكَانَ أولى قلت: بل كَانَ التَّمْيِيز بَين الْقُرْآن وَكَلَامه وَاجِبا، لِأَن من لَا يحفظ الْقُرْآن أَو لَا يحسن الْقِرَاءَة يظنّ أَن قَوْله: (أَلْسِنَتكُم) من الْقُرْآن، وَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يَقُول، وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن تلووا} (النِّسَاء: ٥٣١) . يَعْنِي أَلْسِنَتكُم. و: إتْيَان، كلمة مُفْردَة من الْقُرْآن فِي معرض الِاحْتِجَاج لَا يُفِيد، وَلَا هُوَ بطائل أَيْضا.
٣٥٦٢ - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُنيرٍ قَالَ سَمِعَ وهْبَ بنَ جَرِير وعبْدَ المَلِكِ بنَ إبْرَاهِيمَ قالَا حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ أنَسٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سُئلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الكَبَائِرِ قَالَ الأشْرَاكُ بِاللَّه وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وقَتْلُ النَّفْسِ وشَهَادَةُ الزُّورِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَشَهَادَة الزُّور) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون: أَبُو عبد الرَّحْمَن الزَّاهِد، مر فِي الْوضُوء. الثَّانِي: وهب بن جرير بن حَازِم الْأَزْدِيّ أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث: عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله، مولى بني عبد الدَّار الْقرشِي. الرَّابِع: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الْخَامِس: عبيد الله، بتصغير العَبْد، ابْن أبي بكر بن أنس بن مَالك. السَّادِس: أنس بن مَالك.