غَيرهَا، لَكِن الْحُكَّام يحلِّفون من وَجب عَلَيْهِ الْيَمين فِي مجَالِسهمْ.
قَضَى مَرْوَانُ باليَمِينِ علَى زَيْدِ بنِ ثابِتٍ علَى المِنْبَرِ فَقَالَ أحْلِفُ لَهُ مَكانِي فجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ وأبَى أنْ يَحْلِفَ علَى المِنْبَرِ فجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ
مَرْوَان هُوَ ابْن الحكم الْأمَوِي، كَانَ وَالِي الْمَدِينَة من جِهَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن دَاوُد ابْن الْحصين: سمع أَبَا غطفان بن طريف الْمزي، قَالَ: اخْتصم زيد بن ثَابت وَابْن مُطِيع يَعْنِي: عبد الله إِلَى مَرْوَان فِي دَار، فَقضى بِالْيَمِينِ على زيد على الْمِنْبَر، فَقَالَ: أَحْلف لَهُ مَكَاني. فَقَالَ مَرْوَان: لَا وَالله إلَاّ عِنْد مقاطع الْحُقُوق، فَجعل زيد يحلف أَن حَقه لحق ويأبى أَن يحلف على الْمِنْبَر، فَجعل مَرْوَان يعجب من ذَلِك، قَالَ مَالك: لَا أرى أَن يحلف على الْمِنْبَر فِي أقل من ربع دِينَار، وَذَلِكَ ثَلَاثَة دَرَاهِم. قَوْله: (على الْمِنْبَر) يتَعَلَّق بقوله: على الْمِنْبَر ظَاهرا، لَكِن السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يتَعَلَّق بِالْيَمِينِ. قَوْله: (أَحْلف) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا بِلَفْظ الْأَمر أَيْضا. قَوْله: (فَجعل) بِمَعْنى: طفق، من أَفعَال المقاربة، وروى ابْن جريج عَن عِكْرِمَة، قَالَ: أبْصر عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قوما يحلفُونَ بَين الْمقَام وَالْبَيْت، فَقَالَ: أَعلَى دم؟ قيل: لَا، قَالَ: أفعلى عَظِيم من المَال؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لقد خشيت أَن يتهاون النَّاس بِهَذَا الْمقَام. قَالَ: ومنبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي التَّعْظِيم مثل ذَلِك، لما ورد فِيهِ من الْوَعيد على من حلف عِنْده بِيَمِين كَاذِبَة.
واحتيج أَبُو حنيفَة بِمَا رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت أَنه: لم يحلف عِنْد الْمِنْبَر، وَمن يرى ذَلِك مَال إِلَى قَول مَرْوَان بِغَيْر حجَّة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَاحْتج عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَقَالَ: لَو لم يعلم زيد أَن الْيَمين عِنْد الْمِنْبَر سُنَّة، لأنكر ذَلِك على مَرْوَان، وَقَالَ لَهُ: لَا وَالله لَا عَلَيْهِ أَحْلف إلَاّ فِي مجلسك. انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب! كَيفَ يَقُول هَذَا؟ فَلَو علم زيد أَنه سُنَّة لما حلف على أَنه لَا يحلف إلَاّ فِي مَجْلِسه، وَعدم سَمَاعه كَلَام مَرْوَان أعظم من الْإِنْكَار عَلَيْهِ صَرِيحًا، والاحتجاج بزيد بن ثَابت أولى بالاحتجاج، بل أَحَق من مَرْوَان. وَقد اخْتلف فِي الَّذِي يغلظ فِيهِ من الْحُقُوق، فَعَن مَالك: ربع دِينَار، وَعَن الشَّافِعِي: عشرُون دِينَارا فَأكْثر، وَنقل القَاضِي فِي مغربته
عَن بعض الْمُتَأَخِّرين: أَنه يغلظ فِي الْقَلِيل وَالْكثير، وَقَالَ ابْن الْجلاب: يحلف على أقل من ربع دِينَار فِي سَائِر الْمَسَاجِد، وَقَالَ مَالك: فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْقَاسِم عَنهُ: أَنه يحلف قَائِما إلَاّ من بِهِ عِلّة، وروى عَنهُ ابْن كنَانَة: لَا يلْزمه الْقيام، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة، وَخَالفهُ مطرف وَابْن الْمَاجشون، وَهل يحلف فِي دبر صَلَاة وَحين اجْتِمَاع النَّاس إِذا كَانَ المَال كثيرا؟ قَالَ ابْن الْقَاسِم ومطرف وَابْن الْمَاجشون وَأصبغ: لَيْسَ ذَلِك عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن كنَانَة عَن مَالك: يتحَرَّى بِهِ السَّاعَات الَّتِي يحضر النَّاس فِيهَا الْمَسَاجِد ويجتمعون للصَّلَاة.
وَاخْتلف فِي صفة مَا يحلف بِهِ، فَقَالَ مَالك: بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إلَاّ هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة، الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَقَالَ الشَّافِعِي: يزِيد: الَّذِي يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور، وَالَّذِي يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة. قَالَ سَحْنُون: يحلف بِاللَّه وبالمصحف، ذكره عَنهُ الدَّاودِيّ، وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: الْيَمين بِاللَّه لَا بِالطَّلَاق وَالْعتاق إلَاّ إِذا ألحَّ الْخصم، وَلَا يُبَالِي بِالْيَمِينِ بِاللَّه، فَحِينَئِذٍ يحلف بهما، لَكِن إِذا نكل لَا يقْضِي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ، لِأَنَّهُ امْتنع عَمَّا هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ شرعا، وَلَو قضى عَلَيْهِ بِالنّكُولِ لَا ينفذ ويغلظ الْيَمين بأوصاف الله تَعَالَى، وَقيل: لَا يغلظ على الْمَعْرُوف بالصلاح، ويغلظ على غَيره، وَقيل: يغلظ فِي الخطير من المَال دون الحقير، وَلَا يغلظ بِزَمَان وَلَا بمَكَان. وَفِي (التَّوْضِيح) : هَل يحلف بِحَضْرَة الْمُصحف؟ أَبَاهُ مَالك، وألزمه ذَلِك بعض المالكيين فِي عشْرين دِينَارا فَأكْثر، وَعَن ابْن الْمُنْذر: أَنه حكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: رَأَيْت مطرفاً يحلف بِحَضْرَة الْمُصحف.
وَقَالَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاهِدَاكَ أوْ يَمينُهُ فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانَاً دُونَ مَكان
لما كَانَ مَذْهَب البُخَارِيّ أَن يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ حَيْثُ مَا وَجَبت عَلَيْهِ الْيَمين، احْتج بِهَذَا على مَا ذهب إِلَيْهِ، وَقد مر هَذَا مُسْندًا فِي حَدِيث الْأَشْعَث، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ حَيْثُ وَافق الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا. قيل: قد اعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ترْجم للْيَمِين بعد الْعَصْر، فَأثْبت التَّغْلِيظ بِالزَّمَانِ وَنفى هُنَا الغليظ بِالْمَكَانِ، وَأجِيب أَنه لَا يلْزم من تَرْجَمته بذلك أَنه يُوجب تَغْلِيظ الْيَمين بِالزَّمَانِ، وَلم يُصَرح هُنَاكَ بِشَيْء من النَّفْي وَالْإِثْبَات.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute