يَوْم أحد. قَالَ: فَاسْتقْبل سعد بن معَاذ، فَقَالَ لَهُ أنس: يَا أَبَا عَمْرو أَيْن؟ واها لريح الْجنَّة أَجِدهُ دون أحد. قَالَ: فَقَاتلهُمْ حَتَّى قتل، قَالَ: فَوجدَ فِي جسده بضع وَثَمَانُونَ من بَين ضَرْبَة وطعنة ورمية. قَالَ: فَقَالَت أُخْته، عَمَّتي الرّبيع بنت النَّضر، فَمَا عرفت أخي إلَاّ ببنانه، وَنزلت هَذِه الْآيَة {رجال صدقُوا} (الْأَحْزَاب: ٣٢) . الْآيَة. قَالَ: وَكَانُوا يرَوْنَ أَنَّهَا نزلت فِيهِ وَفِي أَصْحَابه.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غَابَ عمي أنس بن النَّضر) ، قد مر فِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ أنس: غَابَ عمي الَّذِي سميت بِهِ، وَالنضْر بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة. قَوْله: (أول قتال) ، لِأَن غَزْوَة بدر هِيَ أول غَزْوَة غزا فِيهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ، وَهِي فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة. قَوْله: (لَئِن الله أشهدني) أَي: أحضرني، وَاللَّام فِي: لَئِن، مَفْتُوحَة دخلت على أَن الشّرطِيَّة لَا جَزَاء لَهُ، لفظا، وَحذف فعل الشَّرْط فِيهِ من الْوَاجِبَات، وَالتَّقْدِير: لَئِن أشهدني الله ... قَوْله: (قتال الْمُشْركين) ، مَنْصُوب بقوله: أشهدني، قَوْله: (ليرين الله) ، جَوَاب الْقسم الْمُقدر، لِأَن اللَّام للقسم وَنون التَّأْكِيد فِيهِ ثَقيلَة وَمَا قبلهَا مَفْتُوحَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ليريني الله) كَمَا مر، وَفِي رِوَايَة: ليراني الله، بِالْألف. وَفِي (التلويج) : وَضبط أَيْضا بِضَم الْيَاء وَكسر الرَّاء، وَمَعْنَاهُ: ليرين الله النَّاس مَا أصنع ويبرزه لَهُم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَأَنَّهُ ألزم نَفسه إلزاماً مؤكداً، وَلم يظهره مَخَافَة مَا يتَوَقَّع من التَّقْصِير فِي ذَلِك، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي مُسلم فهاب أَن يَقُول غَيره، وَلذَلِك سَمَّاهُ الله عهدا، بقوله: {صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب: ٣٢) . وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ كَرِوَايَة البُخَارِيّ. قَوْله: (مَا أصنع) ، قَالَ بَعضهم: أعربه النَّوَوِيّ: بَدَلا من ضمير الْمُتَكَلّم. قلت: هَذَا لَا يَصح إلَاّ فِي رِوَايَة مُسلم، وَأما فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فَهُوَ مَنْصُوب على المفعولية، وَهَذَا الْقَائِل لم يُمَيّز بَين الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْإِعْرَاب، فَرُبمَا يضان النَّاظر فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَن مَا قَالَه النَّوَوِيّ فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِك إلَاّ فِي رِوَايَة مُسلم. فَافْهَم. قَوْله: (وانكشف الْمُسلمُونَ) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَانْهَزَمَ النَّاس. قَوْله: (أعْتَذر) أَي: من فرار الْمُسلمين. قَوْله: (وَأَبْرَأ) ، أَي: عَن قتال الْمُشْركين مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَاسْتَقْبلهُ) ، أَي: فَاسْتقْبل أنس بن النَّضر سعد بن معَاذ سيد الْأَوْس، وَكَانَ ثَبت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد. قَوْله: (الْجنَّة) ، بِالنّصب، أَي: أُرِيد الْجنَّة، وبالرفع على تَقْدِير هِيَ مطلوبي. قَوْله: (وَرب النَّضر) ، أَرَادَ بِهِ وَالِده النَّضر، قيل: يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ ابْنه، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ ابْن يُسمى النَّضر، وَكَانَ إِذْ ذَاك صَغِيرا، وَفِي رِوَايَة عبد الْوَهَّاب: فوَاللَّه، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن بكر عَن حميد عِنْد الْحَارِث ابْن أبي أُسَامَة عَنهُ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ. قَوْله: (رِيحهَا) ، أَي: ريح الْجنَّة. قَوْله: (من دون أحد) أَي: عِنْد أحد. قَالَ ابْن بطال وَغَيره: يحْتَمل أَن يكون على الْحَقِيقَة، وَأَنه وجد ريح الْجنَّة حَقِيقَة، أَو وجد ريحًا طيبَة ذكره طيبها بِطيب الْجنَّة، وَيجوز أَن يكون أَرَادَ أَنه استحضر الْجنَّة الَّتِي أعدت للشهيد، فتصور أَنَّهَا فِي ذَلِك الْموضع الَّذِي يُقَاتل فِيهِ، فَيكون الْمَعْنى: إِنِّي لأعْلم أَن الْجنَّة تكتسب فِي هَذَا الْموضع فاشتاق لَهَا. قَوْله: (قَالَ سعد: فَمَا اسْتَطَعْت يَا رَسُول الله مَا صنع) قَالَ ابْن بطال: يُرِيد مَا اسْتَطَعْت أَن أصف مَا صنع من كَثْرَة مَا أبلى فِي الْمُشْركين. قَوْله: (فَوَجَدنَا بِهِ) وَفِي رِوَايَة عبد الله بن بكر، قَالَ أنس: فوجدناه بَين الْقَتْلَى وَبِه. قَوْله: (أَو طعنة) كلمة أَو فِي الْمَوْضِعَيْنِ للتنويع. قَوْله: (وَقد مثل) بتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة، من الْمثلَة وَهُوَ قطع الْأَعْضَاء من أنف وَأذن وَغَيرهمَا. قَوْله: (ببنانه) البنان الإصبع، وَقيل: طرف الإصبع، وَهُوَ الْأَشْهر. وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن طَلْحَة بِالشَّكِّ: ببنانه أَو بشامته، بالشين الْمُعْجَمَة وَالْأولَى أَكثر، وَالثَّانيَِة أوجه. قَوْله: (كُنَّا نرى) ، بِضَم النُّون وَفتح الرَّاء. قَوْله: (أَو نظن) من الرَّاوِي وهما بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يزِيد بن هَارُون عَن حميد: فَكُنَّا نقُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن سِنَان عَن يزِيد: فَكَانُوا يَقُولُونَ، والتردد فِيهِ من حميد، وَوَقع فِي رِوَايَة ثَابت: وأنزلت هَذِه الْآيَة بِالْجَزْمِ دون الشَّك. قَوْله: وَقَالَ: إِن أُخْته، أَي: أُخْت أنس بن النَّضر، وَهِي عمَّة أنس بن مَالك. قَوْله: (الرّبيع) بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وقصة الرّبيع هَذِه مَضَت فِي كتاب الصُّلْح فِي: بَاب الصُّلْح فِي الدِّيَة. قَوْله: (لَأَبَره) أَي: لأبر قسمه، وَهُوَ ضد الْحِنْث.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: جَوَاز بذل النَّفس فِي الْجِهَاد وَفضل الْوَفَاء بالعهد وَلَو شقّ على النَّفس حَتَّى يصل إِلَى إهلاكها، وَإِن طلب الشَّهَادَة لَا يتَنَاوَلهُ النَّهْي عَن الْإِلْقَاء إِلَى التَّهْلُكَة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لأنس بن النَّضر، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ من صِحَة الْإِيمَان وَكَثْرَة التوقي والتورع، وَقُوَّة الْيَقِين.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute