فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة يحثهم على مودته ومودة أقربائه. قَوْله: {إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: ٣٢) . يجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا، أَي: لَا أَسأَلكُم أجرا إلَاّ هَذِه، وَهُوَ أَن لَا تُؤْذُوا أهل قَرَابَتي وَلم يكن هَذَا أجرا فِي الْحَقِيقَة، لِأَن قرَابَته قرابتهم، وَكَانَت صلتهم لَازِمَة لَهُم فِي الْمَوَدَّة، وَيجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا، أَي: لَا أَسأَلكُم أجرا قطّ، وَلَكِن أَسأَلكُم أَن تودوا قَرَابَتي الَّذين هم قرابتك وَلَا تؤذوهم.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِك على أَقْوَال: أَحدهَا: محبَّة قرَابَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم: أهل بَيته من آل هَاشم فَمن بعدهمْ من أهل الْبَيْت. وَالثَّانِي: مَوَدَّة قُرَيْش. الثَّالِث: المُرَاد عَليّ وَفَاطِمَة وولداها، ذكر فِي ذَلِك عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس. وَالرَّابِع: قَالَه عِكْرِمَة: كَانَت قُرَيْش تصل الرَّحِم، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قطعته. فَقَالَ: (صلوني كَمَا تَفْعَلُونَ) ، فَالْمَعْنى لَكِن أذكركم قَرَابَتي. وَالْخَامِس: مَوَدَّة من يتَقرَّب إِلَى الله، عز وَجل، وَهُوَ رأى الصُّوفِيَّة.
قَوْله: (إلَاّ أَن تصلوا) أَي: إلَاّ صلَة الْأَرْحَام. قَوْله: (فَنزلت عَلَيْهِ) أَي: على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: هَذَا لم ينزل؟ قلت: نزل مَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إلَاّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: ٣٢) . وَتَقْدِيره: إلَاّ الْمَوَدَّة ثَابِتَة فِي أهل الْقُرْبَى، وَقيل: الضَّمِير فِي نزلت رَاجع إِلَى الْآيَة الَّتِي فِيهَا {إلَاّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: ٣٢) . وَقَوله: (إلَاّ أَن تصلوا) تَفْسِير لَهَا.
٨٩٤٣ - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ بنِ أبِي مَسْعُودٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مِنْ هَهُنَا جاءَتِ الفِتَنُ نَحْوَ المَشْرِقِ والجَفَاءُ وغِلْظَ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ عِنْدَ أصُولِ أذْنابِ الإبِلِ والبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ ومُضَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: فِي ربيعَة وَمُضر، فَإِنَّهُمَا قبيلتان، وَلما فسر الْكرْمَانِي هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبتهما بالترجمة؟ قلت: ضَرُورَة أَن النَّاس بِاعْتِبَار الصِّفَات كالقبائل، وَكَون الأتقى مِنْهُم فِيهَا أكْرم، وَفِي الْقلب مِنْهُ مَا لَا يخفى على الفطن.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد، وَقيس هُوَ أبي حَازِم البَجلِيّ، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري.
قَوْله: (يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، إِنَّمَا قَالَ كَذَلِك لِأَنَّهُ أَعم من أَنه: سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من غَيره عَنهُ. قَوْله: (نَحْو الْمشرق) ، هُوَ بَيَان أَو بدل لقَوْله: هَهُنَا. قَوْله: (فِي الْفَدادِين) بِالتَّشْدِيدِ، وهم الَّذين تعلوا أَصْوَاتهم فِي حروثهم ومواشيهم، وبالتخفيف: هِيَ الْبَقَرَة الَّتِي تحرث، وَاحِدهَا: فدان مشدداً. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: فدا الرجل يفد فديداً إِذا اشْتَدَّ صَوته، وَقيل: الفدادون هم المكثرون من الْإِبِل، وَقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان. قَوْله: (أهل الْوَبر) أَي: أهل الْبَوَادِي، والوبر، بِفَتْح الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: هُوَ وبر الْإِبِل سمي بذلك لأَنهم يتخذون بُيُوتهم مِنْهُ. قَوْله: (عِنْد أصُول أَذْنَاب الْإِبِل) ، هُوَ عبارَة عَن جلبتهم عِنْد سوقها. قَوْله: (فِي ربيعَة وَمُضر) ، بدل من الْفَدادِين.
٩٩٤٣ - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ الفَخْرُ والخُيَلَاءُ فِي الفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ والسَّكِينَةِ فِي أهِّلِ الغنَمِ والإيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ. .
مر الْكَلَام فِي وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الحَدِيث السَّابِق، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الله ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان.
قَوْله: (وَالْخُيَلَاء) بِضَم الْخَاء وَكسرهَا: الْكبر وَالْعجب، يُقَال: فِيهِ خُيَلَاء ومخيلة أَي: كبر، وَمِنْه اختال فَهُوَ مختال. وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: (وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء فِي الْفَدادِين) ، وهم، وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهِم الْجفَاء وهما فِي أَصْحَاب الْخَيل. قَوْله: (والسكينة) ، هُوَ السّكُون وَالْوَقار. قَوْله: (يمَان) ، أَصله: يمني، حذف إِحْدَى الياءين وَعوض مِنْهُمَا الْألف فَصَارَ: يمَان، وَهِي اللُّغَة الفصحى، ثمَّ: يمنى، ثمَّ يماني بِزِيَادَة الْألف، ذكرهَا سِيبَوَيْهٍ، وَحكى الْجَوْهَرِي وَصَاحب (الْمطَالع)