الطّيب معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي رأى الْحق ورؤياه لَيست بأضغاث أَحْلَام وَلَا من تَشْبِيه الشَّيْطَان وَقَوله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " إِشَارَة إِلَيْهِ إِلَى أَنَّهَا لَا تكون أضغاث أَحْلَام بل حَقًا ورؤيا صَحِيحَة قَالَ وَقد يرَاهُ الرَّائِي على غير صفته المنقولة إِلَيْنَا كإبياض اللِّحْيَة أَو خلاف لَونه أَو يرَاهُ اثْنَان فِي زمن وَاحِد أَحدهمَا بالمشرق وَالْآخر بالمغرب يرَاهُ كل وَاحِد فِي مَكَانَهُ وَقَالَ آخَرُونَ بل الْحَدث على ظَاهره وَالْمرَاد أَن من رَآهُ فقد أدْركهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا مَانع يمْنَع مِنْهُ وَالْعقل لَا يحيله وَمَا يذكر من الاعتلال بِأَنَّهُ قد يرَاهُ على خلاف صفته الْمَعْرُوفَة أوفى مكانين مَعًا فَذَلِك غلط من الرائيفي صِفَاته وتخيل لَهَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ وَقد نظر بعض الخيالات مرئيات والإدراك لَا يشْتَرط فِيهِ تحديق الْأَبْصَار ولأقرب الْمسَافَة وَلَا كَون المرئي مَدْفُونا فِي الأَرْض وَلَا ظَاهرا عَلَيْهَا إِنَّمَا يشْتَرط كَونه مَوْجُودا وَجَاء مَا يدل على بَقَاء جِسْمه عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الْأَنْبِيَاء لَا تغيرهم الأَرْض وَتَكون الصِّفَات المخيلة اثرها وثمرتها اخْتِلَاف الدلالات فقد ذكر أَنه إِذا رَآهُ شَيخا فَهُوَ عَام سلم وَإِذا رَآهُ شَابًّا فَهُوَ عَام جَدب وان رَآهُ حسن الْهَيْئَة حسن الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال مُقبلا على الرَّائِي كَانَ خيرا لَهُ وان رَآهُ على خلاف ذَلِك كَانَ شرا لَهُ وَلَا يلْحق النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمن ذَلِك شَيْء وَلَو رَآهُ أَمر بقتل من لَا يحل قَتله فَهَذَا من الصِّفَات المتخيلة لَا المرئية وَفِيه قَول ثَالِث قَالَه لقَاضِي عِيَاض وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ أَن رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِصفتِهِ الْمَعْلُومَة فَهُوَ إِدْرَاك الْحَقِيقَة وَإِن رَآهُ على غير صفته فَهُوَ إِدْرَاك الْمِثَال وَتَكون رُؤْيا تَأْوِيل فان من الرُّؤْيَا مَا يخرج على وَجههَا وَمِنْهَا مَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل قَالَ النَّوَوِيّ القَوْل الثَّالِث ضَعِيف بل الصَّحِيح القَوْل الثَّانِي وَيُقَال معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي فقد رأى مثالي بِالْحَقِيقَةِ لِأَن المرئي فِي الْمَنَام مِثَال قَوْله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " يدل على ذَلِك وَيقرب مِنْهُ مَا قَالَه الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه رأى جسمي وبدني بل رأى مِثَالا صَار ذَلِك الْمِثَال آلَة يتَأَدَّى بهَا الْمَعْنى الَّذِي فِي نَفسِي إِلَيْهِ بل الْبدن الْيَقَظَة أَيْضا لَيْسَ إِلَّا آلَة النَّفس فَالْحق أَن مَا يرَاهُ مِثَال حَقِيقَة روحه المقدسة الَّتِي هِيَ مَحل النُّبُوَّة فَمَا رَآهُ من الشكل لَيْسَ هُوَ روح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شخصه بل هُوَ مِثَال لَهُ على التَّحْقِيق. فَإِن قلت الْمَنَام ثَلَاثَة أَقسَام رُؤْيا من الله ورؤيا من الشَّيْطَان ورؤيا مِمَّا حدث بِهِ الْمَرْء نَفسه وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب نفت الْقسم الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا يكون من الشَّيْطَان فَهَل يجوز أَن تكون رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام من الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه أَولا قلت لَا يجوز وَبَيَان ذَلِك مَوْقُوف على تَقْدِيم مُقَدّمَة وَهِي أَن الِاجْتِمَاع بَين الشخصين يقظة ومناما لحُصُول مَا بِهِ الِاتِّحَاد. وَله خَمْسَة أصُول كُلية الِاشْتِرَاك فِي الذَّات أَو فِي صفة فَصَاعِدا أَو فِي حَال فَصَاعِدا أَو فِي حَال أَو فِي حَال الْأَفْعَال وَفِي الْمَرَاتِب وكل مَا يتعقل من الْمُنَاسبَة بَين شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء لَا يخرج عَن هَذِه الْخَمْسَة وبحسب قوته على مَا بِهِ الِاخْتِلَاف وَضَعفه يكثر الِاجْتِمَاع ويقل وَقد يقوى على ضِدّه فتقوى الْمحبَّة بِحَيْثُ يكَاد الشخصان لَا يفترقان وَقد يكون بِالْعَكْسِ وَمن حصل لَهُ الْأُصُول الْخَمْسَة وَثبتت الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين أَرْوَاح الماضين اجْتمع بهم مَتى شَاءَ وَإِذا عرف هَذَا ظهر أَن حَدِيث الْمَرْء نَفسه لَيْسَ مِمَّا يقدر أَن يحصل مُنَاسبَة بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَكُون سَبَب الِاجْتِمَاع بِخِلَاف الْملك الْمُوكل بالرؤيا فَإِنَّهُ يمثل بالوجود مَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ من الْمُنَاسبَة وَقَوله فِي بعض الرِّوَايَات " فسيراني فِي الْيَقَظَة ". " وكأنما رَآنِي فِي الْيَقَظَة قبل مَعْنَاهُ سيرى تَفْسِير مَا رأى لِأَنَّهُ حق وَقيل سيراه فِي الْقِيَامَة وَقيل المُرَاد بقوله " سيراني " أهل عصره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُمل لم يُهَاجر فَتكون الرُّؤْيَة فِي الْمَنَام علما لَهُ على رُؤْيَته فِي الْيَقَظَة قَوْله " فَأن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي " أَي لَا يتَصَوَّر بِصُورَتي وَاخْتلف فِي معنى الصُّورَة فَقيل أَي فِي صِفَتي وَهُوَ صفة الْهِدَايَة وَقيل هِيَ على حَقِيقَته وَهِي التخطيط الْمَعْلُوم الْمشَاهد لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا ظَاهر وَعَن هَذَا وضعوه لرُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ميزاناً وَقَالُوا رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ أَن يرَاهُ الرَّائِي بِصُورَة شَبيهَة لصورته الثَّابِتَة حليتها بِالنَّقْلِ الصَّحِيح حَتَّى لَو رَآهُ فِي صُورَة مُخَالفَة لصورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الْحس لم يكن رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل أَن يرَاهُ طَويلا أَو قَصِيرا جدا أَو يرَاهُ أشعر أَو شَيخا أَو شَدِيد السمرَة وَنَحْو ذَلِك وَيُقَال خص الله تَعَالَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن رُؤْيَة النَّاس إِيَّاه صَحِيحَة وَكلهَا صدق وَمنع الشَّيْطَان أَن يتَصَوَّر فِي خلقته لِئَلَّا يكذب على لِسَانه فِي النّوم كَمَا خرق الله تَعَالَى الْعَادة للأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام بالمعجزة وكما اسْتَحَالَ أَن يتَصَوَّر الشَّيْطَان فِي صورته فِي الْيَقَظَة وَقَالَ مُحي السّنة رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام حق وَلَا يتَمَثَّل الشَّيْطَان بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute