للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَوْله: (فَقَالَ: أكتبوا لأبي فلَان) أَرَادَ بِهِ لأبي شاه. وَفِي مُسلم: فَقَالَ الْوَلِيد يَعْنِي: ابْن مُسلم رَاوِي الحَدِيث قلت للأوزاعي مَا قَوْله: اكتبوا لي يَا رَسُول الله؟ قَالَ: هَذِه الْخطْبَة الَّتِي سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ رجل من قُرَيْش) ، وَهُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا يَأْتِي فِي اللّقطَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَوَقع فِي رِوَايَة لِابْنِ أبي شيبَة: فَقَالَ رجل من قُرَيْش يُقَال لَهُ شاه، وَهُوَ غلط. قَوْله: (فَإنَّا نجعله فِي بُيُوتنَا) لِأَنَّهُ يسقف بِهِ الْبَيْت فَوق الْخشب. وَقيل: كَانُوا يخلطونه بالطين لِئَلَّا يتشقق إِذا بني بِهِ كَمَا يفعل بالتبن. . قَوْله: (وَقُبُورنَا) لِأَنَّهُ يسد بِهِ فرج اللَّحْد المتخللة بَين اللبنات. قَوْله: (إلَاّ الْإِذْخر) وَقع فِي بعض الرِّوَايَات مكررا مرَّتَيْنِ، فَتكون الثَّانِيَة للتَّأْكِيد.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْعلم، وَكره قوم كِتَابَة الْعلم لِأَنَّهَا سَبَب لضياع الْحِفْظ، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم. وَمن الْحجَّة أَيْضا مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ من كِتَابَة الْمُصحف الَّذِي هُوَ أصل الْعلم، وَكَانَ للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتَّاب يَكْتُبُونَ الْوَحْي. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا سَمِعت شَيْئا فاكتبه وَلَو فِي الْحَائِط. قلت: مَحل الْخلاف كِتَابَة غير الْمُصحف، فَمَا اتَّفقُوا لَا يكون من الْحجَّة عَلَيْهِم. وَقَالَ عِيَاض: إِنَّمَا كره من كره من السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْعلم فِي الْمُصحف وَتَدْوِين السّنَن لأحاديث رويت فِيهَا. مِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْكِتَابَة فَلم يَأْذَن لنا) . وَعَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أمرنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن لَا نكتب شَيْئا) . وَلِئَلَّا يكْتب مَعَ الْقُرْآن شَيْء وَخَوف الاتكال على الْكِتَابَة. ثمَّ جَاءَت أَحَادِيث بِالْإِذْنِ فِي ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. قلت: يُرِيد قَول عبد الله: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ، قَالَ: فَأذن لي، فكتبته) فَكَانَ عبد الله يُسَمِّي صَحِيفَته الصادقة. قَالَ: وَأَجَازَهُ مُعظم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَوَقع عَلَيْهِ بعد الِاتِّفَاق ودعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة لانتشار الطّرق وَطول الْأَسَانِيد واشتباه المقالات مَعَ قلَّة الْحِفْظ وكلال الْفَهم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجابوا عَن أَحَادِيث النَّهْي إِمَّا بالنسخ، فَإِن النَّهْي كَانَ خوفًا من الِاخْتِلَاط بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا اشْتهر أمنت الْمفْسدَة، أَو إِن النَّهْي كَانَ على التَّنْزِيه لمن وثق بحفظه، وَالْإِذْن لمن لم يَثِق بحفظه.

الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَن الْخطْبَة يسْتَحبّ أَن تكون على مَوضِع عَال منبرٍ أَو غَيره فِي جُمُعَة أَو غَيرهَا.

الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (وسلط عَلَيْهِم رَسُول الله) من يرى أَن مَكَّة فتحت عنْوَة، وَأَن التسليط الَّذِي وَقع للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُقَابل بِالْحَبْسِ الَّذِي وَقع لأَصْحَاب الْفِيل وَهُوَ الْحَبْس عَن الْقِتَال، هَذَا قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ الشَّافِعِي: فتحت صلحا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث أبي شُرَيْح.

الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم قطع الشّجر فِي الْحرم مِمَّا لَا ينبته الآدميون فِي الْعَادة، وعَلى تَحْرِيم خلاه، وَهَذَا بالِاتِّفَاقِ. وَاخْتلفُوا مِمَّا ينبته الآدميون، قَالَه النَّوَوِيّ.

الْخَامِس: اسْتدلَّ أهل الْأُصُول بِهَذَا الحَدِيث وَشبهه على أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ متعبدا بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم، وَمنعه بَعضهم. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْأولِ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو يُوسُف، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَصحح الْغَزالِيّ الْجَوَاز، وَتوقف فِي الْوُقُوع. وَقَالَ ابْن الْخَطِيب الرَّازِيّ: توقف أَكثر الْمُحَقِّقين فى الْكل، وَجوزهُ بَعضهم فِي أَمر الْحَرْب دون غَيره، وَاسْتدلَّ من قَالَ بِوُقُوعِهِ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا، وَفِي قَوْله لما سُئِلَ: (أحجنا هَذَا لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ وَلَو قلت: نعم، لوَجَبَ) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: ١٥٩) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُسَارَى بدر: {مَا كَانَ لنَبِيّ} الْآيَة، (آل عمرَان: ١٦١، الْأَنْفَال: ٦٧) وَلَو كَانَ حكم بِالنَّصِّ لما عوتب. وَأجَاب المانعون عَن الْكل بِأَنَّهُ يجوز أَن يقارنها نُصُوص أَو تقدم عَلَيْهَا بِأَن يُوحى إِلَيْهِ أَنه إِذا كَانَ كَذَا فَاضل فافعل كَذَا، مثل أَن لَا يَسْتَثْنِي إلَاّ الْإِذْخر حِين سَأَلَ الْعَبَّاس، أَو كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَاضرا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يكون بِالْوَحْي لَا بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْمُهلب: يجوز أَن الله تَعَالَى أعلم رَسُوله بتحليل الْمُحرمَات عِنْد الِاضْطِرَار، فَكَانَ هَذَا من ذَلِك الأَصْل، فَلَمَّا سَأَلَ الْعَبَّاس حكم فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: ١٥٩) إِنَّه مَخْصُوص بِالْحَرْبِ.

السَّادِس: فِيهِ أَن ولي الْقَتِيل بِالْخِيَارِ بَين أَخذ الدِّيَة وَبَين الْقَتْل، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَار الْجَانِي على أَي الْأَمريْنِ شَاءَ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ: لَيْسَ إلَاّ الْقَتْل أَو الْعَفو، وَلَيْسَ لَهُ الدِّيَة إلَاّ برضى الْجَانِي، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ. قلت: هُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن ذكْوَان وَعبد الله بن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُم أَن قَوْله: أَخذ الدِّيَة، قد يجوز أَن يكون على مَا قَالَ أهل الْمقَالة الأولى: وَيجوز أَن يَأْخُذ الدِّيَة إِن أعطيها، كَمَا يُقَال للرجل: خُذ بِدينِك إِن شِئْت دَرَاهِم، وَإِن شِئْت دَنَانِير، وَإِن شِئْت عرضا، وَلَيْسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>