بِثَلَاثَة آنِية مغطاة، فَقَالَ لي جِبْرِيل: يَا مُحَمَّد أَلَا تَشرب مِمَّا سقاك رَبك؟ فتناولت أَحدهَا فَإِذا هُوَ عسل، فَشَرِبت مِنْهُ قَلِيلا ثمَّ تناولت الآخر فَإِذا هُوَ لبن فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى رويت، فَقَالَ: أَلا تشرب من الثَّالِث؟ قلت: قد رويت. قَالَ: وفقك الله، وَفِي رِوَايَة الْبَزَّار من هَذَا الْوَجْه: أَن الثَّالِث كَانَ خمرًا، لَكِن وَقع عِنْده أَن ذَلِك كَانَ بِبَيْت الْمُقَدّس، وَأَن الأول كَانَ مَاء وَلم يذكر الْعَسَل. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أَحْمد: فَلَمَّا أَتَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرف جِيءَ بقدحين فِي أَحدهمَا لبن وَفِي الآخر عسل، فَأخذ اللَّبن ... الحَدِيث، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ثَابت عَن أنس أَيْضا إِتْيَانه بالآنية كَانَ بِبَيْت الْمُقَدّس قبل الْمِعْرَاج وَلَفظه: ثمَّ دخلت الْمَسْجِد فَصليت فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرجت فَجَاءَنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِإِنَاء من خمر وإناء من لبن، فَأخذت اللَّبن، فَقَالَ جِبْرِيل: أخذت الْفطْرَة، ثمَّ عرج إِلَى السَّمَاء، وَفِي حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس: فَصليت فِي الْمَسْجِد حَيْثُ شَاءَ الله وأخذني من الْعَطش أَشد مَا أَخَذَنِي، فَأتيت بإناءين أَحدهمَا لبن وَالْآخر عسل، فعدلت بَينهمَا، ثمَّ هَدَانِي الله فَأخذت اللَّبن، فَقَالَ شيخ بَين يَدي، يَعْنِي لجبريل: أَخذ صَاحبك الْفطْرَة، وَفِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد إِبْنِ إِسْحَاق فِي قصَّة الْإِسْرَاء: فصلى بهم، يَعْنِي الْأَنْبِيَاء، ثمَّ أَتَى بِثَلَاثَة آنِية: إِنَاء فِيهِ لبن وإناء فِيهِ خمر وإناء فِيهِ مَاء فَأخذت اللَّبن ... الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة: أَتَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة أسرِي بِهِ بِإِنَاء فِيهِ خمر وإناء فِيهِ لبن، فَنظر إِلَيْهِمَا فَأخذ اللَّبن، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: الْحَمد لله الَّذِي هداك للفطرة، لَو أخذت الْخمر غوت أمتك، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن هَاشم بن عتبَة عَن أنس عَن الْبَيْهَقِيّ: فَعرض عَلَيْهِ المَاء وَالْخمر وَاللَّبن فَأخذ اللَّبن، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: أصبت الْفطْرَة، وَلَو شربت المَاء لغرقت وغرقت أمتك، وَلَو شربت الْخمر لغويت وغوت أمتك، قلت: قَالُوا بِالْجمعِ بَين هَذَا الِاخْتِلَاف إِمَّا بِحمْل: ثمَّ، على غير بَابهَا من التَّرْتِيب، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الْوَاو هُنَا، وَأما بِوُقُوع عرض الْآنِية مرَّتَيْنِ: مرّة عِنْد فَرَاغه من الصَّلَاة بِبَيْت الْمُقَدّس بِسَبَب مَا وَقع لَهُ من الْعَطش، وَمرَّة عِنْد وُصُوله إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى ورؤية الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة، وَأما الِاخْتِلَاف فِي عدد الْآنِية وَمَا فِيهَا فَيحمل على أَن بعض الروَاة ذكر مَا لم يذكرهُ الآخر ومجموعها أَرْبَعَة آنِية فِيهَا أَرْبَعَة أَشْيَاء من الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة الَّتِي رَآهَا تخرج من أصل سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَلَعَلَّه عرض عَلَيْهِ من كل نهر إِنَاء، وَالله أعلم.
قَوْله: (وَبِمَا أمرت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى: بِمَا أمرت، بِدُونِ الْألف. قَوْله: (وعالجت بني إِسْرَائِيل) ، أَي: مارستهم وَلَقِيت الشدَّة فِيمَا أردْت مِنْهُم من الطَّاعَة، والمعالجة مثل المجادلة (وَلَكِنِّي أرْضى وَأسلم) فِيهِ حذف تَقْدِيره: حَتَّى استحييت فَلَا أرجع فَإِنِّي إِذا رجعت كنت غير راضٍ وَلَا مُسلم، وَلَكِنِّي أرْضى وَأسلم، وَبِهَذَا يُجَاب عَمَّا قيل، لَكِن حَقّهَا أَن تقع بَين كلامين متغايرين معنى، فَمَا وَجهه هُنَا؟ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: ومراجعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَاب الصَّلَاة إِنَّمَا جَازَت من رَسُولنَا مُحَمَّد ومُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، لِأَنَّهُمَا عرفا أَن الْأَمر الأول غير وَاجِب قطعا، فَلَو كَانَ وَاجِبا قطعا لَا يقبل التَّخْفِيف: وَقيل: فِي الأول فرض خمسين ثمَّ رحم عباده ونسخها بِخمْس، كآية الرَّضَاع وعدة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وَفِيه دَلِيل على أَنه يجوز نسخ الشَّيْء قبل وُقُوعه. قَوْله: (أمضيت فريضتي وخففت عَن عبَادي) ، وَفِي رِوَايَة أنس عَن أبي ذَر الَّتِي تقدّمت فِي أول الصَّلَاة: هن خمس وَهن خَمْسُونَ، وَفِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس عِنْد مُسلم: حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّد خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة كل صَلَاة عشرَة فَتلك خَمْسُونَ صَلَاة، وَفِي رِوَايَة يزِيد بن أبي مَالك عِنْد النَّسَائِيّ: وأتيت سِدْرَة الْمُنْتَهى فغشيتني ضَبَابَة فَخَرَرْت سَاجِدا. فَقيل لي: إِنِّي يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض فرضت عَلَيْك وعَلى أمتك خمسين صَلَاة، فَقُمْ بهَا أَنْت وَأمتك، فَذكر مُرَاجعَته مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِيه: أَنه فرض على بني إِسْرَائِيل فَمَا قَامُوا بهَا، وَقَالَ فِي آخِره: خمس بِخَمْسِينَ، فَقُمْ بهَا أَنْت وَأمتك، فَعرفت أَنَّهَا عَزمَة من الله، فَرَجَعت إِلَى مُوسَى فَقَالَ لي: ارْجع، فَلم ارْجع. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي وُقُوع الْمُرَاجَعَة مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، دون غَيره من الْأَنْبِيَاء؟ قلت: لِأَن ابْتِدَاء الْمُرَاجَعَة كَانَ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك وَقعت مَعَه، وَقيل: قد قَالَ مُوسَى من كَلَامه أَنه عالج بني إِسْرَائِيل على أقل من ذَلِك فَمَا قبلوه وَمَا وافقوه، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن مقَام الْخلَّة مقَام الرِّضَا وَالتَّسْلِيم، ومقام التكليم مقَام الإدلال والانبساط، وَمن ثمَّة استبد مُوسَى بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute