يُسمى سهرا لَا سمرا إِذْ السمر لَا يكون إِلَّا بتحدث وأبعدها الْأَخير لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، ثمَّ قَالَ: وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة مستفادة من لفظ آخر فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه من طَرِيق أُخْرَى، وَهَذَا يصنعه المُصَنّف كثيرا، يُرِيد بِهِ تَنْبِيه النَّاظر فِي كِتَابه على الاعتناء بتتبع طرق الحَدِيث، وَالنَّظَر فِي مواقع أَلْفَاظ الروَاة، لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ هُنَا مَا وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مِمَّا يدل صَرِيحًا على حَقِيقَة السمر بعد الْعشَاء وَهُوَ مَا أخرجه فِي التَّفْسِير وَغَيره من طَرِيق كريب عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (بت فِي بَيت مَيْمُونَة، فَتحدث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَهله سَاعَة ثمَّ رقد) فَصحت التَّرْجَمَة بِحَمْد الله تَعَالَى من غير حَاجَة إِلَى تعسف وَلَا رجم بِالظَّنِّ انْتهى. قلت: اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض كُله معترض، أما قَوْله: لِأَن من يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، فَغير صَحِيح، لِأَن حَقِيقَة السمر التحدث بِاللَّيْلِ، وَيُطلق ذَلِك على التحدث بِكَلِمَة، وَقد بَين ذَلِك ابْن الْمُنِير بقوله: إِن أصل السمر ثَبت بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَهِي قَوْله: (نَام الغليم) . وَالَّذِي قَالَه صَحِيح، لِأَن أحدا لم يشْتَرط أَن لَا يكون السمر إلَاّ بِكَلِمَات مُتعَدِّدَة، وَأهل اللُّغَة قاطبة لم يَقُولُوا إلَاّ أَن السمر هُوَ التحدث بِاللَّيْلِ، وَهُوَ يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير. وَأما قَوْله: وصنيع ابْن عَبَّاس يُسمى سهرا لَا سمرا، فَنَقُول: إِن السمر كَمَا يُطلق على القَوْل يُطلق على الْفِعْل يُقَال: سمر الْقَوْم الْخمر إِذا شَرِبُوهَا. قَالَ الْقطَامِي:
(ومصرَّعين من الكلال وَإِنَّمَا ... سمروا الغبوق من الطلاء المعرق)
وسامر الْإِبِل مَا رعى مِنْهَا بِاللَّيْلِ، يُقَال: إِن إبلنا تسمر أَي ترعى لَيْلًا. وَأما قَوْله: وأبعدها الْأَخير، فَهُوَ أبعد اعتراضاته، بل هُوَ الْأَقْرَب، لِأَن قَوْله: لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، مُخَالف لما قَالَه أهل اللُّغَة، وَبَيَان قرب الْأَخير الَّذِي ادّعى أَنه أبعدها أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ وَقت جعله ابْن عَبَّاس عَن يَمِينه فِي مقَام التَّعْلِيم لَهُ، وَلَا شكّ أَنه لم يكتف وقتئذ بِمُجَرَّد الْفِعْل، بل علمه أَيْضا بالْقَوْل لزِيَادَة الْبَيَان، وَلَا سِيمَا كَانَ ابْن عَبَّاس حِينَئِذٍ صَغِيرا وَلم يكن عَالما بموقف الْمُقْتَدِي من الإِمَام. وَأما قَوْله: وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة إِلَى آخِره ... فَكَلَام لَيْسَ لَهُ تَوْجِيه أصلا، فضلا عَن أَن يكون أولى من غَيره، لِأَن من يعْقد بَابا بترجمة وَيَضَع فِيهِ حَدِيثا، وَكَانَ قد وضع هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي بَاب آخر، وَلَكِن بطرِيق أُخْرَى وألفاظ مُتَغَايِرَة، هَل يُقَال مُنَاسبَة التَّرْجَمَة فِي هَذَا الْبَاب يُسْتَفَاد من ذَلِك الحَدِيث الْمَوْضُوع فِي الْبَاب الآخر؟ فَمَا أبعد هَذَا الْكَلَام وَأبْعد من هَذَا الْبعيد أَنه علل مَا قَالَ بقوله: لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ فسبحان الله، هَؤُلَاءِ مَا فسروا الحَدِيث هَهُنَا، بل ذكرُوا مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة بالتقارب، وَمَا ذكره هُوَ الرَّجْم بِالظَّنِّ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. ذكرُوا مَا عدا الحكم بَين عتيبة، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف المفتوحتين. وعتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء، ابْن النهاس. واسْمه عبد الْكِنْدِيّ، يُقَال: كنيته أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو عمر الْكُوفِي مولى عدي بن عدي الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: مولى امْرَأَة من كِنْدَة. قَالَ يحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَكَانَ فَقِيه الْكُوفَة مَعَ حَمَّاد. روى عَن ابْن أبي أوفى وَأبي جُحَيْفَة، وَعنهُ شُعْبَة وَغَيره، وَكَانَ عابدا قَانِتًا ثِقَة صَاحب سنة، مَاتَ سنة أَربع عشرَة، وَقيل: خمس عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وَالْحكم الْمَذْكُور من التَّابِعين الصغار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن آدم، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن ابْن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مُحَمَّد بن قيس الْأَسدي عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن يزِيد عَن بهز بن أَسد عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه عَن كريب وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَأبي جَمْرَة وطاووس وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute