لَفْظَة، هَهُنَا غير زَائِدَة، وَأَن رِوَايَة جرير قبل ذَلِك، ويصححه مَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَابْن مَاجَه: إِنَّه أسلم فِي رَمَضَان سنة عشر، فَحِينَئِذٍ يخدش مَا ذكره ابْن عبد الْبر، وَالله أعلم. قَوْله: (لَا ترجعوا) مَعْنَاهُ هَهُنَا: لَا تصيروا، قَالَ ابْن مَالك: رَجَعَ هُنَا اسْتعْمل اسْتِعْمَال صَار معنى وَعَملا، أَي: لَا تصيروا بعدِي كفَّارًا، فعلى هَذَا: كفَّارًا مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: لَا ترجعوا، أَي: لَا تصيروا، فَتكون من الْأَفْعَال النَّاقِصَة الَّتِي تَقْتَضِي الإسم الْمَرْفُوع وَالْخَبَر الْمَنْصُوب. قَوْله: (بعدِي) قَالَ الطَّبَرِيّ أَي بعد فراقي فِي موقفي هَذَا، وَقَالَ غَيره: خلافي، أَي لَا تخلفوني فِي أَنفسكُم بعد الَّذِي أَمرتكُم بِهِ، وَيحْتَمل أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، علم أَن هَذَا لَا يكون فِي حَيَاته فنهاهم عَنهُ بعد وَفَاته. وَقَالَ المظهري: يَعْنِي إِذا فَارَقت الدُّنْيَا فاثبتوا بعدِي على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الْإِيمَان وَالتَّقوى، وَلَا تَحَارَبُوا الْمُسلمين وَلَا تَأْخُذُوا أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ محيي السّنة. أَي: لَا تكن أفعالكم شَبيهَة بِأَفْعَال الْكفَّار فِي ضرب رِقَاب الْمُسلمين.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل فِي مَعْنَاهُ سِتَّة أَقْوَال أخر. أَحدهَا: إِن ذَلِك كفر فِي حق المستحل بِغَيْر حق. ثَانِيهَا: المُرَاد كفر النِّعْمَة وَحقّ الْإِسْلَام. ثَالِثهَا: إِنَّه يقرب من الْكفْر وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ. رَابِعهَا: إِنَّه حَقِيقَة الْكفْر وَمَعْنَاهُ: دوموا مُسلمين. خَامِسهَا: حَكَاهُ الْخطابِيّ، أَن المُرَاد بالكفار المتكفرون بِالسِّلَاحِ يُقَال: تكفر الرجل بسلاحه إِذا لبسه، وَيُقَال للابس السِّلَاح: كَافِر. سادسها: مَعْنَاهُ: لَا يكفر بَعضهم بَعْضًا فتستحلوا قتال بَعْضكُم بَعْضًا.
قَوْله: (يضْرب) بِرَفْع الْبَاء، وَهُوَ الصَّوَاب وَهُوَ الرِّوَايَة الَّتِي رَوَاهَا المتقدمون والمتأخرون. وَفِيه وُجُوه: أَحدهَا: أَن يكون صفة لكفار أَي: لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا متصفين بِهَذِهِ الصّفة القبيحة، يَعْنِي ضرب بَعْضكُم رِقَاب آخَرين. وَالثَّانِي: أَن يكون حَالا من ضمير: لَا ترجعوا، أَي: لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا حَال ضرب بَعْضكُم رِقَاب بعض. وَالثَّالِث: أَن يكون جملَة استئنافية، كَأَنَّهُ قيل: كَيفَ يكون الرُّجُوع كفَّارًا؟ فَقَالَ: يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض، فعلى الْوَجْه الأول: يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا ترجعوا عَن الدّين بعدِي فتصيروا مرتدين مقاتلين يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض بِغَيْر حق، على وَجه التَّحْقِيق: وَأَن يكون: لَا ترجعوا كالكفار الْمقَاتل بَعْضكُم بَعْضًا على وَجه التَّشْبِيه بِحَذْف أداته هُوَ على الثَّانِي، يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تكفرُوا حَال ضرب بَعْضكُم رِقَاب بعض لأمر يعرض بَيْنكُم لاستحلال الْقَتْل بِغَيْر حق، وَأَن يكون: لَا ترجعوا حَال الْمُقَاتلَة لذَلِك كالكفار فِي الانهماك فِي تهييج الشَّرّ وإثارة الْفِتَن بِغَيْر إشفاق مِنْكُم بَعْضكُم على بعض فِي ضرب الرّقاب. وعَلى الثَّالِث: يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض بِغَيْر حق فَإِنَّهُ فعل الْكفَّار، وَأَن يكون لَا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض، كَفعل الْكفَّار على مَا تقدم،؛ وَجوز ابْن مَالك وَأَبُو الْبَقَاء جزم الْبَاء على أَنه بدل من: لَا ترجعوا، وَأَن يكون، جَزَاء لشرط مُقَدّر على مَذْهَب الْكسَائي، أَي: فَإِن رجعتم يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض. وَقيل: يجوز الْجَزْم بِأَن يكون جَوَاب النَّهْي على مَذْهَب من يجوز: لَا تكفر تدخل النَّار. وَقَالَ القَاضِي وَالنَّوَوِيّ: وَمن سكَّن الْبَاء مِمَّن لم يضبطه أحَال الْمَعْنى، لِأَن التَّقْدِير على الرّفْع: لَا تَفعلُوا فعل الْكفَّار فتشبهوا بهم فِي حَالَة قتل بَعضهم بَعْضًا، ومحاربة بَعضهم بَعْضًا. قَالَ القَاضِي، وَهَذَا أولى الْوُجُوه الَّتِي يتَنَاوَل عَلَيْهَا هَذَا الحَدِيث. وَقد جرى بَين الْأَنْصَار كَلَام بمحاولة الْيَهُود حَتَّى ثار بَعضهم إِلَى بعض فِي السِّلَاح. فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَكَيف تكفرون وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله} (آل عمرَان: ١٠١) أَي تَفْعَلُونَ فعل الْكفَّار، وَسِيَاق الْخَبَر يدل على أَن النَّهْي عَن ضرب الرّقاب وَالنَّهْي عَمَّا قبله بِسَبَبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي بكرَة، رَضِي الله عَنهُ: (إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام) . وَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: (ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا) الحَدِيث. فَهُوَ شرح لما تقدم من تَحْرِيم بَعضهم على بعض. قَوْله: (رِقَاب بعض) ، وَهُوَ جمع رَقَبَة، فَإِن قلت: لَيْسَ لكل شخص إلَاّ رَقَبَة وَاحِدَة، وَلَا شكّ أَن ضرب الرَّقَبَة الْوَاحِدَة مَنْهِيّ عَنْهَا. قلت: الْبَعْض وَإِن كَانَ مُفردا لكنه فِي معنى الْجمع، كَأَنَّهُ قَالَ: رب لَا يضْرب فرقة مِنْكُم رِقَاب فرقة أُخْرَى، وَالْجمع فِي مُقَابلَة الْجمع: أَو مَا فِي مَعْنَاهُ يُفِيد التَّوْزِيع.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ أَن الْإِنْصَات للْعُلَمَاء والتوقير لَهُم لَازم للمتعلمين، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: ٢) وَيجب الْإِنْصَات عِنْد قِرَاءَة حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا يجب لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ يجب الْإِنْصَات للْعُلَمَاء لأَنهم الَّذين يحيون سنته ويقومون بِشَرِيعَتِهِ. الثَّانِي: فِيهِ تحذير الْأمة من وُقُوع مَا يحذر فِيهِ. الثَّالِث: تعلق بِهِ بعض أهل الْبدع فِي إِنْكَار حجية الْإِجْمَاع، كَمَا قَالَ الْمَازرِيّ، لِأَنَّهُ نهى الْأمة بأسرها عَن الْكفْر، وَلَوْلَا جَوَاز إجماعها عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute