بِالْمَاءِ فَيبقى واهيا، وَفسّر قَوْله: هار، بقوله: هائر، يُقَال: تهورت الْبِئْر إِذا انْهَدَمت وانهار مثله، وَفِيه إِشَارَة أَيْضا إِلَى أَن لفظ: هار، مقلوب من هائر ومعلول إعلال قَاض، وَقيل: لَا حَاجَة إِلَيْهِ بل أَصله: هور وألفه لَيست بِأَلف فَاعل وَإِنَّمَا هِيَ عينه وَهُوَ بِمَعْنى: سَاقِط.
لأَوَّاهٌ شَفَقا وَفَرَقا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} (التَّوْبَة: ١١٤) والأواه المتأوه المتضرع، وَهُوَ على وزن فعال، بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ سُفْيَان وَغير وَاحِد. عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن زر بن حُبَيْش عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: الأواه الدُّعَاء، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث ابْن الْمُبَارك عَن عبد الحميد بن بهْرَام، قَالَ: الأواه المتضرع الدُّعَاء، وَعَن مُجَاهِد وَأبي ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة أَنه الرَّحِيم أَي: لعباد الله، وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: الأواه الموقن بِلِسَان الْحَبَشَة، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة وَمُجاهد عَن ابْن عَبَّاس، الأواه الْمُؤمن التواب، وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ: الأواه المسبح، وَقَالَ شفي ابْن مَانع عَن أبي أَيُّوب: الأواه الَّذِي إِذا ذكر خطاياه اسْتغْفر مِنْهَا، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دفن مَيتا فَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها يَعْنِي: تلاء لِلْقُرْآنِ. قَوْله: (شفقا) أَي: لأجل الشَّفَقَة وَلأَجل الْفرق، وَهُوَ الْخَوْف، وَهَذَا كَانَ فِي إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا عَمَّن ظلمه وخائفا من عَظمَة الله تَعَالَى وَمن كَثْرَة حلمه وشدته أَنه اسْتغْفر لِأَبِيهِ مَعَ شدَّة أَذَاهُ لَهُ فِي قَوْله: {أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا} (مَرْيَم: ٤٦) .
وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِذا مَا قُمْتُ أرْحَلُها بِلَيْلٍ تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ)
كَأَنَّهُ يحْتَج بِهَذَا الْبَيْت على أَن لفظ: أَواه، على وزن فعال من التأوه، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إِذا قَالَ: أوه، وَالِاسْم مِنْهُ الآهة بِالْمدِّ. ثمَّ قَالَ: قَالَ المثقب الْعَبْدي: إِذا مَا قُمْت إِلَى آخِره، ويروى أهة، تَشْدِيد الْهَاء من قَوْلهم: أه أَي توجع. قلت: فَلذَلِك قَالَ أَكثر الروَاة آهة بِالْمدِّ وَالتَّخْفِيف، وروى الْأصيلِيّ: أهة بِلَا مد وَتَشْديد الْهَاء، وَقد نسب الْجَوْهَرِي الْبَيْت الْمَذْكُور إِلَى المثقب الْعَبْدي، بتَشْديد الْقَاف الْمَفْتُوحَة، وَزعم بَعضهم بِكَسْر الْقَاف، وَالْأول أشهر وَسمي المثقب بقوله:
(أرين محاسنا وكنن أُخْرَى ... وثقبن الوصاوص للعيون)
قَوْله: كنن أَي: سترن، والوصاوص، جمع وصواص وَهُوَ البرقع الصَّغِير، وَهَكَذَا فسره الْجَوْهَرِي ثمَّ أنْشد هَذَا الْبَيْت، وَاسم المثقب، جحاش عَائِذ بن مُحصن بن ثَعْلَبَة بن وائلة بن عدي بن زهر بن مُنَبّه بن بكرَة بن لكز بن أفصى بن عبد الْقَيْس، قَالَ المرزباني: وَقيل: اسْمه شَاس بن عَائِذ بن مُحصن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو هفان اسْمه شَاس ابْن نَهَار، وَالْبَيْت الْمَذْكُور من قصيدة من الْمُتَوَاتر وَهِي طَوِيلَة وأولها قَوْله:
(أفاطم قبل بَيْنك متعبني ... ومنعك مَا سَأَلت كَأَن تبيني)
(فَلَا تعدِي مواعد كاذباتَ ... تمر بهَا ريَاح الصَّيف دوني)
(فَإِنِّي لَو تخالفني شمَالي ... لما اتبعتها أبدا يَمِيني)
(إِذا لقطعتها ولقلت: بيني ... لذَلِك اجتوى من يجتويني)
إِلَى أَن قَالَ:
(فسلِّ الْهم عَنْك بِذَات لَوَث ... عذافرة كمطرقة القيون)
(إِذا مَا قُمْت أرحلها بلَيْل ... تأوه آهة الرجل الحزين)
(تَقول: إِذا درأت لَهَا وضيني ... أَهَذا دينه أبدا وديني)
(أكلُّ الدَّهْر حل وارتحال ... فَمَا يبْقى عَليّ وَلَا يقيني)
وَمن حكمهَا:
(فإمَّا أَن تكون أخي بِصدق ... فأعرف مِنْك غثي من سميني)
(وإلَاّ فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني)