الْبَعْض كَمَا يحصل مَعَ الْكل وَالْبَعْض الملصق مُجمل فَكَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانا وَقَالَ صَاحب الِاخْتِيَار الْإِجْمَال فِي النَّص من حَيْثُ أَنه يحْتَمل إِرَادَة الْجَمِيع كَمَا قَالَ مَالك وَيحْتَمل إِرَادَة الرّبع كَمَا قُلْنَا وَيحْتَمل إِرَادَة الْأَقَل كَمَا قَالَ الشَّافِعِي وَهَذَا ضَعِيف لِأَن فِي احْتِمَال إِرَادَة الْجَمِيع تكون الْبَاء فِي برؤسكم زَائِدَة وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمجَاز لَا يُعَارض الأَصْل كَمَا ذكر فِي الْأُصُول وَالْعَمَل هُنَا مُمكن بِأَيّ بعض كَانَ فَلَا يكون النَّص بِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مُجملا فَإِن قلت لَا نسلم أَن الْكتاب مُجمل لِأَن الْمُجْمل مَا لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِبَيَان من الْمُجْمل وَالْعَمَل بِهَذَا النَّص مُمكن بِحمْلِهِ على الْأَقَل لتيقنه قلت لَا نسلم أَن الْعَمَل بِهِ قبل الْبَيَان مُمكن والأقل لَا يكون أقل من شَعْرَة وَالْمسح عَلَيْهَا لَا يكون إِلَّا بِزِيَادَة عَلَيْهَا وَمَا لَا يُمكن إِلَّا بِهِ فَهُوَ فرض وَالزِّيَادَة غير مَعْلُومَة فتحقق الْإِجْمَال فِي الْمِقْدَار فَإِن قلت سلمنَا أَنه مُجمل وَالْخَبَر بَيَان لَهُ وَلَكِن الدَّلِيل أخص من الْمَدْلُول فَإِن الْمَدْلُول مِقْدَار الناصية وَهُوَ ربع الرَّأْس وَالدَّلِيل يدل على تعْيين الناصية وَمثله لَا يُفِيد الْمَطْلُوب قلت الْبَيَان لما فِيهِ من الْإِجْمَال فَكَأَن الناصية بَيَانا للمقدار لَا للمحل الْمُسَمّى نَاصِيَة إِذْ لَا إِجْمَال فِي الْمحل فَكَانَ من بَاب ذكر الْخَاص وَإِرَادَة الْعَام وَهُوَ مجَاز شَائِع فَكَانَا متساويين فِي الْعُمُوم فَإِن قلت لَا نسلم أَن مِقْدَار الناصية فرض لِأَن الْفَرْض مَا ثَبت بِدَلِيل قَطْعِيّ وَخبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْقطع وَلَئِن سلمناه وَلَكِن لَازمه هُوَ تَكْفِير الجاحد مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُوم قلت الأَصْل فِي هَذَا أَن خبر الْوَاحِد إِذا لحق بَيَانا للمجمل كَانَ الحكم بعده مُضَافا إِلَى الْمُجْمل دون الْبَيَان والمجمل من الْكتاب وَالْكتاب دَلِيل قَطْعِيّ وَلَا نسلم انْتِفَاء اللَّازِم لِأَن الجاحد من لَا يكون مؤولا وَمُوجب الْأَقَل والجميع مؤول يعْتَمد شُبْهَة قَوِيَّة وَقُوَّة الشُّبْهَة تمنع التَّكْفِير من الْجَانِبَيْنِ أَلا ترى أَن أهل الْبدع لَا يكفرون بِمَا منعُوا مِمَّا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل الْقطعِي فِي نظر أهل السّنة لتأويلهم فَافْهَم. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي الْأَحْكَام قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤسكم} يَقْتَضِي مسح بعضه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن هَذِه الأدوات مَوْضُوعَة لإِفَادَة الْمعَانِي وَإِن كَانَ قد يجوز دُخُولهَا فِي بعض الْمَوَاضِع صلَة فَتكون ملغاة وَيكون وجودهَا وَعدمهَا سَوَاء وَلَكِن لما أمكن هَهُنَا اسْتِعْمَالهَا على وَجه الْفَائِدَة لم يجز الغاؤها فَلذَلِك قُلْنَا أَنَّهَا للتَّبْعِيض وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك إِذا قلت مسحت يَدي بِالْحَائِطِ كَانَ معقولا مسحها بِبَعْضِه دون جَمِيعه وَلَو قلت مسحت الْحَائِط كَانَ الْمَعْقُول مسح جَمِيعه دون بعضه فوضح الْفرق بَين إدخالها وإسقاطها فِي الْعرف واللغة فَإِذا كَانَ كَذَلِك تحمل الْبَاء فِي الْآيَة على التَّبْعِيض تَوْفِيَة لحقها وَإِن كَانَت فِي الأَصْل للإلصاق إِذْ لَا مُنَافَاة بَينهمَا لِأَنَّهَا تكون مستعملة للإلصاق فِي الْبَعْض الْمَفْرُوض وَالدَّلِيل على أَنَّهَا للتَّبْعِيض مَا روى عمر بن عَليّ بن مقدم عَن إِسْمَعِيل بن حَمَّاد عَن أَبِيه حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم فِي قَوْله {وامسحوا برؤسكم} قَالَ إِذا مسح بِبَعْض الرَّأْس أَجزَأَهُ قَالَ فَلَو قَالَ وامسحوا رؤسكم كَانَ الْفَرْض مسح الرَّأْس كُله فَأخْبر أَن الْبَاء للتَّبْعِيض وَقد كَانَ من أهل اللُّغَة مَقْبُول القَوْل فِيهَا وَيدل على أَنه قد أُرِيد بهَا التَّبْعِيض فِي الْآيَة اتِّفَاق الْجَمِيع على جَوَاز ترك الْقَلِيل من الرَّأْس فِي الْمسْح والاقتصار على الْبَعْض وَهَذَا هُوَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ على التَّبْعِيض فَحِينَئِذٍ احْتَاجَ إِلَى دلَالَة فِي إِثْبَات الْمِقْدَار الَّذِي هُوَ حَده فَإِن قلت إِذا كَانَت للتَّبْعِيض لما جَازَ أَن يُقَال مسحت برأسي كُله كَمَا لَا يُقَال مسحت بِبَعْض رَأْسِي كُله قلت قد بَينا أَن حَقِيقَتهَا إِذا أطلقت التَّبْعِيض مَعَ احْتِمَال كَونهَا ملغاة فَإِذا قَالَ مسحت برأسي كُله علمنَا أَنه أَرَادَ أَن تكون الْبَاء ملغاة نَحْو قَوْله تَعَالَى {مَا لكم من إِلَه غَيره} وَنَحْو ذَلِك فَإِن قلت قَالَ ابْن جنى وَابْن برهَان من زعم أَن الْبَاء للتَّبْعِيض فقد جَاءَ أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعرفونه قلت أثبت الْأَصْمَعِي والفارسي والقتيبي وَابْن مَالك التَّبْعِيض وَقيل هُوَ مَذْهَب الْكُوفِيّين وَجعلُوا مِنْهُ (عينا يشرب بهَا عباد الله) وَقَول الشَّاعِر
(شربن بِمَاء الْبَحْر ثمَّ ترفعت ... )
وَيُقَال أَن الْبَاء فِي الْآيَة للاستعانة وَأَن فِي الْكَلَام حذفا وَقَلْبًا فَإِن مسح يتَعَدَّى إِلَى المزال عَنهُ بِنَفسِهِ وَإِلَى المزيل بِالْبَاء فَالْأَصْل امسحوا رؤسكم بِالْمَاءِ وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن الْبَاء للإلصاق فَإِن دخلت فِي آلَة الْمسْح نَحْو مسحت الْحَائِط بيَدي يتَعَدَّى إِلَى الْمحل فَيتَنَاوَل كُله وَإِن دخلت فِي الْمحل نَحْو فامسحوا برؤسكم لَا يتَنَاوَل كل الْمحل تَقْدِيره الصقوها برؤسكم فَإِذا لم يتَنَاوَل كل الْمحل يَقع الْإِجْمَال فِي قدر الْمَفْرُوض مِنْهُ وَيكون الحَدِيث مُبينًا لذَلِك كَمَا قَرَّرْنَاهُ. النَّوْع الثَّانِي عشر قَوْله {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} يدل على فَرضِيَّة غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء بَيَان ذَلِك أَن قَوْله {وأرجلكم} قرىء بِالنّصب والخفض كَمَا ذكرنَا والقراءتان نقلهما الْأَئِمَّة تلقيا من رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم وَلَا يخْتَلف أهل اللُّغَة أَن كل وَاحِدَة من الْقِرَاءَتَيْن مُحْتَملَة للمسح بعطفها على الرَّأْس ومحتملة للْغسْل بعطفها على المغسول فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ القَوْل من أحد معَان ثَلَاثَة أما أَن يُقَال أَن المُرَاد هما
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute