وَهُوَ أَحَق وَلَيْسَ ذَلِك بِإِيجَاب إِذا كَانَ الْمَوْلُود لَهُ حَيا مُوسِرًا لقَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النِّسَاء الْقصرى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} (الطَّلَاق: ٦) على مايأتي، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بالوالدات هُنَا المبتوتات فَقَط وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن أجر الرَّضَاع على الزَّوْج إِذا خرجت الْمُطلقَة من الْعدة. وَاخْتلفُوا فِي ذَات الزَّوْج هَل تجبر على رضَاع وَلَدهَا؟ قَالَ ابْن أبي ليلى: نعم مَا كَانَت امْرَأَته، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي ثَوْر، وَقَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَالشَّافِعِيّ: لَا يلْزمهَا رضاعه وَهُوَ على الزَّوْج على كل حَال، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: تجبر على رضاعه إلَاّ أَن يكون مثلهَا لَا يرضع فَذَلِك على الزَّوْج. قَوْله: (حَوْلَيْنِ) مُدَّة الرَّضَاع. وَقَوله: (كَامِلين) مثل قَوْله: (تِلْكَ عشرَة كَامِلَة) (الْبَقَرَة: ٩٦) .
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا} (الْأَحْقَاف: ١٥)
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة إِشَارَة إِلَى قدر الْمدَّة الَّتِي يجب فِيهَا الرَّضَاع. قَوْله: (وَحمله وفصاله) ، أَي: فطامه (ثَلَاثُونَ شهرا) وَهَذَا دَلِيل على أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر لِأَن مُدَّة الرَّضَاع حولان كاملان لقَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلين} (الْبَقَرَة: ٢٣٣) فَيبقى للْحَمْل سِتَّة أشهر رُوِيَ عَن بعجة بن عبد الله الْجُهَنِيّ، قَالَ تزوج رجل منا امْرَأَة فَولدت لسِتَّة أشهر فَأتى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأمر برجمها فَأَتَاهُ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن الله عز وَجل يَقُول: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} قَالَ: {وفصاله فِي عَاميْنِ} وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا ذهبت رضاعته فَإِنَّمَا الْحمل سِتَّة أشهر.
وَقَالَ: {وَإنْ تَعَاسَرْ تُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا} .
أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى مِقْدَار الْإِنْفَاق وَأَنه بِالنّظرِ لحَال الْمُنفق. قَوْله: (وَإِن تعاسرتم) ، أَي: فِي الْإِرْضَاع، فَأبى الزَّوْج أَن يُعْطي الْمَرْأَة أُجْرَة رضاعها وأبت الْأُم أَن ترْضِعه فَلَيْسَ لَهُ إكراهها على إرضاعه فسترضع لَهُ أُخْرَى فستوجد وَلَا تتعذر مُرْضِعَة غير الْأُم ترْضِعه، وَفِيه معاتبة الْأُم على المعاسرة أَي: سيجد الْأَب غير معاسرة ترْضع لَهُ وَلَده إِن عاسرته أمه. قَوْله: (لينفق ذُو سَعَة) ، أَي: ذُو مَوْجُود من سعته على قدر موجوده (وَمن قدر) أَي: وَمن ضيق عَلَيْهِ رزقه (فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله) أَي: فلينفق من ذَلِك الَّذِي أعطَاهُ الله، وَإِن كَانَ قَلِيلا (لَا يُكَلف بِاللَّه نفسا إِلَّا مَا أَتَاهَا) أَي: أَعْطَاهَا من المَال (سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا) أَي: بعد ضيق فِي الْمَعيشَة.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ: نَهَى الله أنْ تُضارَّ وَالِدَةٌ بِوَالِدِها وَذالِكَ أنْ تَقُولَ الوَالِدَةُ لَسْتُ مِرْضِعَتَهُ وَهِيَ أمْثَلُ لَهُ غِذَاءً وَأشْفَقُ عَلَيْهِ وَأرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِها، فَلَيْسَ لَهَا أنْ تَأبَى بَعْدَ أنْ يُعْطِيهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ الله عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أنْ يُضارَّ بِوَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَها أنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارا لَهَا إلَى غَيْرِها فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيْبِ نَفْسِ الوَالِدِ وَالوَالِدَةِ فَإنْ أرَادَ فِصالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أنْ يَكُونَ ذالِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشاوُرٍ: فِصالُهُ فِطامُهُ.
أَي: قَالَ يُونُس بن يزِيد الْقرشِي الأبلي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الله بن وهب فِي (جَامعه) عَن يُونُس. قَالَ: قَالَ ابْن شهَاب فَذكره إِلَى قَوْله: (وتشاور) قَوْله: (نهى الله أَن تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا) ، وَذَلِكَ فِي قَوْله عز وَجل: {لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} قَالَ فِي التَّفْسِير لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا أَي بِأَن تَدْفَعهُ عَنْهَا لتضر أَبَاهُ بتربيته وَلَكِن لَيْسَ لَهَا دَفعه، إِذا وَلدته حَتَّى تسقيه اللباء الَّذِي لَا يعِيش بِدُونِ تنَاوله غَالِبا، ثمَّ بعد هذالها دَفعه عَنْهَا إِن شَاءَت، وَلَكِن إِن كَانَت مضارة لِأَبِيهِ فَلَا يحل لَهَا ذَلِك كَمَا لَا يحل لَهُ انْتِزَاعه مِنْهَا لمُجَرّد الضرار لَهَا. قَوْله: (وَهِي أمثل لَهُ) أَي: الوالدة أفضل للصَّغِير غذَاء أَي: من حَيْثُ الْغذَاء وأشفق عَلَيْهِ من غَيرهَا وأرفق بِهِ أَي: الصَّغِير من غَيرهَا. قَوْله: (فَلَيْسَ لَهَا أَن تأبى) أَي: لَيْسَ للوالدة أَن تمْتَنع بعد أَن يُعْطِيهَا الزَّوْج من نَفسه مَا جعل الله عَلَيْهِ من النَّفَقَة. قَوْله: (ضِرَارًا لَهَا) وَفِي بعض النّسخ ضِرَارًا بهَا. وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute