وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على الْأَطْعِمَة، هَذِه من ثَلَاث آيَات الأولى: قَول تَعَالَى: {من طَيّبَات مَا رزقناكم} (الْبَقَرَة: ١٧٢) أَولهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَمر الله تَعَالَى عباده الْمُؤمنِينَ بِالْأَكْلِ من طَيّبَات مَا رزقهم الله تَعَالَى، وَأَن يشكروه على ذَلِك إِن كَانُوا عبيده، وَالْأكل من الْحَلَال سَبَب لتقبل الدُّعَاء وَالْعِبَادَة كَمَا أَن الْأكل من الْحَرَام يمْنَع قبُول الدُّعَاء وَالْعِبَادَة. وَالثَّانيَِة: من قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: ٦٧) وَوَقع هُنَا: {كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَهِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَفِي أَكثر الرويات أَنْفقُوا على وفْق التِّلَاوَة وَقَالَ ابْن بطال وَقع فِي النّسخ {كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَهُوَ وهم من الْكَاتِب وَصَوَابه: {أَنْفقُوا} كَمَا فِي الْقُرْآن. وَالثَّالِثَة: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} (الْمُؤْمِنُونَ: ٥) المُرَاد بالطيبات: الْحَلَال.
٥٣٧٣ - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَال: أطْعِمُوا الجَائِعَ وَعُودوا المَرِيضَ وَفُكَوا الْعانِي.
قَالَ سُفْيَانُ: وَالعَانِي الأسِيرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث مضى فِي النِّكَاح فِي: بَاب حق إِجَابَة الْوَلِيمَة، وَلَفظه: فكوا العاني وأجيبوا الدَّاعِي وعودوا الْمَرِيض، وَمضى أَيْضا فِي الْجِهَاد فِي: بَاب فكاك الْأَسير، وَلَفظه: فكوا العاني، يَعْنِي: الْأَسير، وأطعموا الجائع، وعودوا الْمَرِيض.
قَوْله: (فكوا) من فَككت الشَّيْء فانفك. قَوْله: (العاني) من عَنَّا يعنو فَهُوَ عان، وَالْمَرْأَة عانية، وَالْجمع: عوان، وكل من ذل واستكان فقد عَنَّا.
٥٣٧٤ - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ عَيسى حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا شَبِعَ آل مُحَمَّدٍ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ويوسف بن عِيسَى أيو يَعْقُوب الْمروزِي، وَمُحَمّد بن فُضَيْل، مصغر فضل، بِالْمُعْجَمَةِ يروي عَن أَبِيه فُضَيْل بن غَزوَان بن جرير، وَأَبُو الفضيل الْكُوفِي يروي عَن أبي حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (مَا شبع آل مُحَمَّد) ، آل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَهله الأدنون وعشيرته الأقربون. قَوْله: (ثَلَاثَة أَيَّام) ، أَي: مُتَوَالِيَات، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ثَلَاث لَيَال، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن المُرَاد بِالْأَيَّامِ هُنَا بلياليها كَمَا أَن المُرَاد بالليالي هُنَاكَ بأيامها وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ، من طَرِيق الْأسود عَن عَائِشَة: مَا شبع من خبز شعير يَوْمَيْنِ مُتَتَابعين. قَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر أَن سَبَب عدم شبعهم غَالِبا كَانَ بِسَبَب قلَّة الشَّيْء عِنْدهم. قلت: لم يكن ذَلِك إلَاّ لإيثارهم الْغَيْر، أَو لِأَن الشِّبَع مَذْمُوم، وأجمعت الْعَرَب كَمَا قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض على أَن الشِّبَع من الطَّعَام مَذْمُوم ولوم، وَنَصّ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، على أَن الْجُوع يذكي، وروى عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا: من قلَّ طعمه صَحَّ بَطْنه وَصفا قلبه، وَمن كثر طعمه سقم بَطْنه وقسا قلبه، وَرُوِيَ: لَا تميتوا الْقُلُوب بِكَثْرَة الطَّعَام وَالشرَاب فَإِن الْقلب ثَمَرَة كالزرع إِذا كثر عَلَيْهِ المَاء انْتهى، وروى الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) من حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب مَرْفُوعا: مَا مَلأ ابْن آدم وعَاء شرا من بَطْنه، فَحسب الرجل من طَعَامه مَا أَقَامَ صلبه.
وَعَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أصَابَنِي جِهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ فَاسْتَقْرَأتُهُ آيَةً مِنْ كِتابِ الله، فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَليَّ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الجَهْدِ وَالجُوعِ، فَإذَا رَسُولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِمٌ عَلَى رأسِي، فَقَال: يَا أَبا هُرَيْرَة فَقلت: لَبَيْكَ رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ، فَأخَذَ بِيَدِي فَأقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي، فَانْطَلَقَ بِي إلَى رَحْلِهِ، فَأمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: عُدْ فَاشْرَبْ يَا أبَا هرٍّ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالقِدْحِ، قَالَ فَلَقِيتُ عُمَرَ، وَذَكَرْتُ لهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أمْرِي، وَقُلْتُ لهُ: تَوَلَّى الله تَعَالَى ذالِكَ مَنْ كَانَ أحَقَّ بِهِ مِنْكَ