رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ إِلَى فخارة فِيهَا مَاء فَشرب قَائِما، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم الرَّازِيّ بِسَنَد صَحِيح.
(وَمن أَحَادِيث الْمَنْع) مَا رَوَاهُ الْأَثْرَم عَن معمر عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: لَو يعلم الَّذِي يشرب وَهُوَ قَائِم لاستتاء وروى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يشربن أحدكُم قَائِما، فَمن نسي فليستقىء، وروى من حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن الشّرْب قَائِما، وروى أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن الشّرْب قَائِما، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْجَارُود بن الْمُعَلَّى: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الشّرْب قَائِما، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
وَاسْتدلَّ أهل الظَّاهِر بِهَذِهِ الْأَحَادِيث على تَحْرِيم الشّرْب قَائِما ثمَّ كَيْفيَّة الْجمع بَينهمَا على أَقْوَال: أَحدهَا: أَن النَّهْي مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم، وَهُوَ الَّذِي صَار إِلَيْهِ الْأَئِمَّة الجامعون بَين الحَدِيث وَالْفِقْه كالخطابي وَأبي مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَأبي عبد الله الْمَازرِيّ، وَالْقَاضِي عِيَاض وَأبي الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ، وَأبي زَكَرِيَّا النَّوَوِيّ، رَحِمهم الله تَعَالَى. الثَّانِي: أَن المُرَاد بالقائم هُنَا الْمَاشِي لِأَن الْمَاشِي يُسمى قَائِما، قَالَ الله عز وَجل:{إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما}(آل عمرَان: ٧٥) . أَي: مواظباً بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ، وَالْعرب تَقول: قُم فِي حاجتنا أَي: امش فِيهَا، قَالَه ابْن التِّين. الثَّالِث: أَنه مَحْمُول على أَن يَأْتِي الرجل أَصْحَابه بشراب فَيبْدَأ قبل أَصْحَابه فيشرب قَائِما، ذكره أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ والمازري. الرَّابِع: تَضْعِيف أَحَادِيث النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما، قَالَه جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، مِنْهُم: أَبُو عمر بن عبد الْبر، وَفِيه نظر. الْخَامِس: أَن أَحَادِيث النَّهْي مَنْسُوخَة قَالَه أَبُو حَفْص بن شاهين وَابْن حبَان فِي صَحِيحه. السَّادِس: مَا قَالَه ابْن حزم أَن أَحَادِيث النَّهْي ناسخة لأحاديث الشّرْب قَائِما، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : الصَّوَاب أَن النَّهْي مَحْمُول على كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَأما شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما فبيانه للْجُوَاز فَلَا إِشْكَال وَلَا تعَارض، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يتَعَيَّن الْمصير إِلَيْهِ، قَالَ: وَأما من زعم نسخا أَو غَيره فقد غلط غَلطا فَاحِشا، وَكَيف يُصَار إِلَى النّسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع لَو ثَبت التَّارِيخ؟ وأنَّى لَهُ بذلك، وَالله أعلم. قلت: جزم النَّوَوِيّ هُنَا بِالْكَرَاهَةِ، وَخَالف ذَلِك فِي (الرَّوْضَة) تبعا للرافعي، فَقَالَ: إِن الشّرْب قَائِما لَيْسَ بمكروه.