للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَطاء وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ وَأبي عُبَيْدَة، وَاخْتلفُوا فِي المستيقظ من النّوم بِالنَّهَارِ، فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نوم النَّهَار ونوم اللَّيْل وَاحِد فِي غمس الْيَد، وَسَهل أَحْمد فِي نوم النَّهَار، وَنهى عَن ذَلِك إِذا قَامَ من نوم اللَّيْل. قَالَ أَبُو بكر: وَغسل الْيَدَيْنِ من ابْتِدَاء الْوضُوء لَيْسَ بِفَرْض، وَذهب دَاوُد الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء يجْزِيه إِن لم تكن الْيَد مغسولة. وَقَالَ ابْن حزم: وَسَوَاء تبَاعد مَا بَين نَومه ووضوئه أَو لم يتباعد، فَلَو صب على يَدَيْهِ من إِنَاء دون أَن يدْخل يَده فِيهِ لزم غسل يَده أَيْضا ثَلَاثًا إِن قَامَ من نَومه. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة، وَقَالَ أَشهب: خشيَة النَّجَاسَة. وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، فَذهب قوم إِلَى أَن ذَلِك من سنَن الْوضُوء، وَقيل: إِنَّه مُسْتَحبّ وَبِه صدر ابْن الْجلاب فِي تفريعه، وَقيل بِإِيجَاب ذَلِك مُطلقًا وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَأَصْحَابه، وَقيل بإيجابه فِي نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَقَالَ: وَهل تغسلان مجتمتعين أَو متفرقتين فَفِيهِ قَولَانِ مبنيان على اخْتِلَاف أَلْفَاظ الحَدِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك، فَفِي بعض الطّرق: فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِفْرَاد، وَفِي بعض طرقه: (فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجمع. انْتهى. فان قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَنْفِي السّنيَّة لأَنهم كَانُوا يتوضؤن من الأتوار، فَلذَلِك أَمرهم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِغسْل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، وَأما فِي هَذَا الزَّمَان فقد تغير ذَلِك. قلت: السّنة لما وَقعت سنة فِي الِابْتِدَاء بقيت ودامت وَإِن لم يبْق ذَلِك الْمَعْنى، لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى أَسبَابهَا حَقِيقَة فِي ابْتِدَاء وجودهَا لَا فِي بَقَائِهَا، لِأَن الْأَسْبَاب تبقى حكما وَإِن لم تبْق حَقِيقَة، لِأَن للشارع ولَايَة الإيجاد والإعدام، فَجعلت الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة بِمَنْزِلَة الْجَوَاهِر فِي بَقَائِهَا حكما. وَهَذَا كالرَّمَل فِي الْحَج وَنَحْوه.

الثَّالِث: اسْتدلَّ بِإِطْلَاق قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من نَومه) ، من غير تَقْيِيد، على أَن غمس الْيَدَيْنِ فِي إِنَاء الْوضُوء مَكْرُوه قبل غسلهمَا سَوَاء كَانَ عقيب نوم اللَّيْل أَو نوم النَّهَار، وَخص أَحْمد الْكَرَاهَة بنوم اللَّيْل لقَوْله: (أَيْن باتت يَده) ، وَالْمَبِيت لَا يكون إلَاّ لَيْلًا، وَلِأَن الْإِنْسَان لَا ينْكَشف لنوم النَّهَار كَمَا ينْكَشف لنوم اللَّيْل، لقَوْله (أَيْن باتت يَده) وَالْمَبِيت لَا يكون إِلَّا لَيْلًا فَتَطُوف يَده فِي أَطْرَاف بدنه كَمَا تَطوف يَد النَّائِم لَيْلًا، فَرُبمَا أَصَابَت مَوضِع الْعذرَة، وَقد يكون هُنَاكَ لوث من أثر النَّجَاسَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا فِي رِوَايَة ابي دَاوُد سَاق، أسنادها مُسلم: إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل ... وَكَذَا التِّرْمِذِيّ من وَجه آخر صَحِيح، وَفِي رِوَايَة لأبي عوَانَة سَاق مُسلم إسنادها: (اذا قَامَ أحدكُم إِلَى الْوضُوء حِين يصبح) وَأَجَابُوا بِأَن الْعلَّة تَقْتَضِي إِلْحَاق نوم النَّهَار بنوم اللَّيْل، وَتَخْصِيص نوم اللَّيْل بِالذكر للغلبة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا أَن هَذَا الحكم لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْقيامِ من النّوم، بل الْمُعْتَبر فِيهِ الشَّك فِي نَجَاسَة الْيَد فَمَتَى شكّ فِي نجاستها يسْتَحبّ غسلهَا سَوَاء قَامَ من النّوم لَيْلًا أَو نَهَارا أَو لم يقم مِنْهُ، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نبه على الْعلَّة بقوله: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي) وَمَعْنَاهُ لَا يَأْمَن من النَّجَاسَة على يَده، وَهَذَا عَام لاحْتِمَال وجود النَّجَاسَة فِي النّوم فيهمَا، وَفِي الْيَقَظَة.

الرَّابِع: إِن قَوْله: (فِي الاناء) مَحْمُول على مَا إِذا كَانَت الْآنِية صَغِيرَة كالكوز أَو كَبِيرَة كالجب وَمَعَهُ آنِية صَغِيرَة، أما إِذا كَانَت الْآنِية كَبِيرَة وَلَيْسَت مَعَه آنِية صَغِيرَة فالنهي مَحْمُول على الإدخال على سَبِيل الْمُبَالغَة، حَتَّى لَو أَدخل أَصَابِع يَده الْيُسْرَى مَضْمُومَة فِي الاناء دون الْكَفّ، وَيرْفَع المَاء من الْجب، وَيصب على يَده الْيُمْنَى، ويدلك الْأَصَابِع بَعْضهَا بِبَعْض، فيفعل كَذَلِك مَرَّات، ثمَّ يدْخل يَده الْيُمْنَى بَالغا مَا بلغ فِي الْإِنَاء إِن شَاءَ، وهذ الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما إِذا كَانَ المَاء فِي إِنَاء كَبِير بِحَيْثُ لَا يُمكن الصب مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَه إِنَاء صَغِير يغترف بِهِ، فطريقة أَن يَأْخُذ المَاء بِفِيهِ ثمَّ يغسل بِهِ كفيه، أَو يَأْخُذهُ بِطرف ثَوْبه النَّظِيف، أَو يَسْتَعِين بِغَيْرِهِ. قلت: لَو فَرضنَا أَنه عجز عَن أَخذه بفمه، وَلم يعْتَمد على طَهَارَة ثَوْبه، وَلم يجد من يَسْتَعِين بِهِ، مَاذَا يفعل؟ وَمَا قَالَه أَصْحَابنَا أوسع وَأحسن.

الْخَامِس: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن المَاء الْقَلِيل تُؤثر فِيهِ النَّجَاسَة، وَإِن لم تغيره، وَهَذِه حجَّة قَوِيَّة لِأَصْحَابِنَا فِي نَجَاسَة الْقلَّتَيْنِ لوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ. وَإِن لم تغيره وإلَاّ لَا يكون للنَّهْي فَائِدَة.

السَّادِس: يُسْتَفَاد مِنْهُ اسْتِحْبَاب غسل النَّجَاسَات ثَلَاثًا لِأَن إِذا مر بِهِ فِي المتوهمة فَفِي المحققة أولى، وَلم يرد شَيْء فَوق الثَّلَاث، إِلَّا فِي ولوغ الْكَلْب، وَسَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أوجب فِيهِ الثَّلَاث، وخيّر فِيمَا زَاد.

السَّابِع: فِيهِ أَن النَّجَاسَة المتوهمة يسْتَحبّ فِيهَا الْغسْل، وَلَا يُؤثر فِيهَا الرش فَإِنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر بِالْغسْلِ وَلم يَأْمر بالرش.

الثَّامِن: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَبْوَاب الْعِبَادَات.

التَّاسِع: إِن المَاء يَتَنَجَّس بورود النَّجَاسَة عَلَيْهِ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع، وَأما وُرُود المَاء على النَّجَاسَة فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: وَالْفرق بَين وُرُود المَاء على النَّجَاسَة وورودها عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا إِذا وَردت عَلَيْهِ نجسته وَإِذا ورد عَلَيْهَا أزالها، وَتَقْرِيره

<<  <  ج: ص:  >  >>