أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مندوبية المداراة وَهِي لين الْكَلِمَة وَترك الإغلاظ لَهُم فِي القَوْل، وَهِي من أَخْلَاق الْمُؤمنِينَ، والمداهنة مُحرمَة، وَالْفرق بَينهمَا أَن المداهنة هِيَ أَن يلقى الْفَاسِق الْمُعْلن بِفِسْقِهِ فيؤالفه وَلَا يُنكر عَلَيْهِ وَلَو بِقَلْبِه، والمداراة هِيَ الرِّفْق بالجاهل الَّذِي يسْتَتر بِالْمَعَاصِي واللطف بِهِ حَتَّى يردهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: المداراة مَعَ النَّاس بِغَيْر همز، وَأَصله الْهَمْز لِأَنَّهُ من المدافعة وَالْمرَاد بِهِ الدّفع بالرفق. قلت: قَوْله: لِأَنَّهُ من المدافعة، غير صَحِيح بل يُقَال من الدرء وَهُوَ الدّفع، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المداراة فِي حسن الْخلق والصحبة غير مَهْمُوز، وَقد يهمز.
ويُذْكَرُ عَنْ أبي الدَّرْداءِ إنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وإنَّ قُلُوبَنا لَتَلْعَنُهُمْ
ذكر هَذَا عَن أبي الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك بِصِيغَة التمريض. قَوْله: لَنكشر، بِسُكُون الْكَاف وَكسر الشين الْمُعْجَمَة من الكشر وَهُوَ ظُهُور الْأَسْنَان، وَأكْثر مَا يُطلق عِنْد الضحك والإسم الكشرة كالعشرة، وَفِي (التَّوْضِيح) : الكشر ظُهُور الْأَسْنَان عِنْد الضحك، وكاشره إِذا ضحك فِي وَجهه وانبسط إِلَيْهِ، وَعبارَة ابْن السّكيت: الكشر التبسم قَوْله: (لَتَلْعَنهُمْ) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد وَهُوَ من اللَّعْن، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَتَقْلِيهِمْ أَي: لتبغضهم من القلى بِكَسْر الْقَاف مَقْصُورا، وَهُوَ البغض يُقَال: قلاه يقليه قلاو وقلا، قَالَ ابْن فَارس: وَقد قَالُوا: قليته أقلاه، وَفِي (الصِّحَاح) : يقلاه لُغَة طَيء وَهِي من النَّوَادِر، لِأَن فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا بِغَيْر حرف حلق نَادِر، وَهَذَا الْأَثر أخرجه مَوْصُولا ابْن أبي الدُّنْيَا من طَرِيق أبي الزَّاهِرِيَّة عَن جُبَير بن نغير عَن أبي الدَّرْدَاء، فَذكر مثله.
٦١٣١ - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا سُفْيانُ عَنِ ابنِ المُنْكَدِرِ حدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ أخبرَتْهُ أنَّهُ اسْتأذَنَ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ أوْ بِئْسَ أخُوا العَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ ألانَ لَهُ الكَلَامَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا رسولَ الله {قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ ألَنْتَ لَهُ فِي القَولِ، فَقَالَ: أيْ عائِشَةُ} إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ الله مَنْ تَرَكَهُ أوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ فحْشِهِ. (انْظُر الحَدِيث ٦٠٣٢ وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة يروي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن عُرْوَة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن صَدَقَة ابْن الْفضل فِي: بَاب مَا يجوز من اغتياب أهل الْفساد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَعَن عَمْرو بن عِيسَى وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن عَمْرو بن مُحَمَّد وَآخَرين عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان.
قَوْله: (رجل) قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عُيَيْنَة بن حفصن. قَوْله: (فبئس ابْن الْعَشِيرَة) أَي: بئس هَذَا الرجل من الْقَبِيلَة. قَوْله: (أَي عَائِشَة) أَي: يَا عَائِشَة. قَوْله: (أَو ودعه) شكّ من الرَّاوِي أَي: تَركه، وَهَذَا يرد قَول أهل الصّرْف، وأماتوا ماضي يدع ويذر. قَوْله: (اتقاء فحشه) أَي: للتجنب عَن فحشه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْكَافِر أشر منزلَة مِنْهُ، وَأجَاب بِأَن المُرَاد من النَّاس الْمُسلمُونَ، وَهُوَ للتغليظ.
وَفِيه: جَوَاز غيبَة الْفَاسِق الْمُعْلن وَلمن يحْتَاج النَّاس إِلَى التحذير مِنْهُ، وَكَانَ الرجل الْمَذْكُور كَمَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ ضَعِيف الْإِيمَان فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَارْتَد بعْدهَا، وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَأْمُورا بِأَن لَا يُعَامل النَّاس إلَاّ بِمَا ظهر مِنْهُم دون غَيره، وَكَانَ يظْهر الْإِسْلَام، فَقَالَ قبل الدُّخُول مَا كَانَ يُعلمهُ وَبعده كَانَ ظَاهرا مِنْهُ عِنْد النَّاس.
٦١٣٢ - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ أخبرنَا ابنُ عُلَيَّةَ أخبرنَا أيُّوبُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُهْدِيَتْ لَهُ أقْبِيَةٌ مِنْ ديباجٍ مُزَرَّرةٌ بالذَّهَبِ، فَقَسَمَها فِي ناسٍ مِنْ أصْحابِهِ وَعَزَلَ مِنْها واحِداً لِمَخْرَمَةَ، فَلما جاءَ قَالَ: خَبأْتُ هاذَا لَكَ. قَالَ أيُّوبُ بِثَوْبِهِ، أنَّهُ يُرِيدِ إيَّاهُ، وكانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ.