للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فِي ذكر متون الْأَحَادِيث، بل يُرِيد الإفادة أَعم من ذَلِك، وَلِهَذَا يذكر آثَار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وفتاوى السّلف وأقوال الْعلمَاء، ومعاني اللُّغَات وَغَيرهَا، فقصد هَهُنَا بَيَان التوضيء بِالْمَاءِ الَّذِي مسته النَّار وتسخن بهَا بِلَا كَرَاهَة دفعا لما قَالَ مُجَاهِد. قلت: هَذَا أعجب من الأول وَأغْرب، وَكَيف يُطَابق هَذَا الْكَلَام وَقد وضع أبواباً مترجمة، وَلَا بُد من رِعَايَة تطابق بَين تِلْكَ الْأَبْوَاب وَبَين الْآثَار الَّتِي يذكرهَا فِيهَا، وإلَاّ يعد من التخابيط؟ وَكَونه يذكر فَتَاوَى السّلف وأقوال الْعلمَاء ومعاني اللُّغَات لَا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وَهَذِه الْأَشْيَاء أَيْضا إِذا ذكرت بِلَا مُنَاسبَة يكون التَّرْتِيب مخبطاً، فَلَو ذكر شخص مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق مثلا فِي كتاب الطَّهَارَة، أَو مَسْأَلَة من كتاب الطَّهَارَة فِي كتاب الْعتاق مثلا، نسب إِلَيْهِ التخبيط. ثمَّ هَذَا الْأَثر الأول وَصله سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا بِإِسْنَاد صَحِيح بِلَفْظ: إِن عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، وَرَوَاهُ ابي شيبَة وَالدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: (كَانَ يسخن لَهُ مَاء فِي حميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.

قَوْله: (بالحميم) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ المَاء المسخن. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ المَاء السخين، فعيل بِمَعْنى مفعول. وَمِنْه سمي الْحمام حَماما لإسخانه من دخله، والمحموم محموماً لسخونة جسده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق جَمِيعًا على الْوضُوء بِالْمَاءِ السخن غير مُجَاهِد فَإِنَّهُ كرهه. رَوَاهُ عَنهُ لَيْث بن أبي سليم. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه: إِن الصَّحَابَة تطهروا بِالْمَاءِ المسخن بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا الْخَبَر. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم أره فِي غير الرَّافِعِيّ! قلت: قد وَقع ذَلِك لبَعض الصَّحَابَة فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) ؛ وَأَبُو نعيم فِي (الْمعرفَة) ، وَالْمَشْهُور من طَرِيق الأسلع بن شريك، قَالَ: كنت أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصابتني جَنَابَة فِي لَيْلَة بَارِدَة، وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرحلة فَكرِهت أَن أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب، وخشيت أَن اغْتسل بِالْمَاءِ الْبَارِد فأموت أَو أمرض، فَأمرت رجلا من الْأَنْصَار يرحلها، وَوضعت أحجاراً فاسخنت بهَا مَاء فاغتسلت، ثمَّ لحقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا ايها الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وانتم سكارى} (النِّسَاء: ٤٣) إِلَى {غَفُورًا} (النِّسَاء: ٤٣) وَفِي سَنَده: الْهَيْثَم بن زُرَيْق الرَّاوِي لَهُ عَن أَبِيه عَن الأسلع مَجْهُولَانِ، والْعَلَاء بن الْفضل رَاوِيه عَن الْهَيْثَم وَفِيه ضعف، وَقد قيل: إِنَّه تفرد بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا ذكره البُخَارِيّ، وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يسخن المَاء يتَوَضَّأ بِهِ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: (إِنَّا نَتَوَضَّأ بالحميم وَقد أغلي على النَّار) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن بشر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدثنَا سملة، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس. وَمِنْهُم ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم.

قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) وَهُوَ الْأَثر الثَّانِي، وَهُوَ عطف على قَوْله: (بالحميم) أَي: وَتَوَضَّأ عمر من بَيت نَصْرَانِيَّة. وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِحَذْف الْوَاو من قَوْله: (وَمن بَيت) ، وَهَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُمَا أثران مستقلان، فَالْأول ذَكرْنَاهُ، وَالثَّانِي الَّذِي علقه البُخَارِيّ وَوَصله الشَّافِعِي وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه: (أَن عمر تَوَضَّأ من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة) ، وَهَذَا لفظ الشَّافِعِي. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: رَوَاهُ خَلاد بن أسلم عَن سُفْيَان بِسَنَدِهِ فَقَالَ: (مَاء نَصْرَانِيّ) ، بالتذكير. وَالْمَحْفُوظ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي: (نَصْرَانِيَّة) ، بالتأنيث. وَفِي (الام) للشَّافِعِيّ: من جرة نَصْرَانِيَّة، بِالْهَاءِ فِي آخرهَا. وَفِي (الْمُهَذّب) لأبي إِسْحَاق: جر نَصْرَانِيّ، وَقَالَ: صَحِيح. وَذكر ابْن فَارس فِي (حلية الْعلمَاء) : هَذَا سلاخة عرقوب الْبَعِير يَجْعَل وعَاء للْمَاء، فَإِن قلت: مَا وَجه تطابق هَذَا الاثر للتَّرْجَمَة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: بِنَاء على حذف وَاو الْعَطف من قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) ، ومعتقداً أَنه أثر وَاحِد لما كَانَ هَذَا الاخير الَّذِي هُوَ مُنَاسِب لترجمة الْبَاب من فعل عمر، رَضِي الله عَنهُ. ذكر الْأَمر الأول أَيْضا، وَإِن لم يكن مناسباً لَهَا، لاشْتِرَاكهمَا فِي كَونهمَا من فعله تكثيراً للفائدة واختصاراً فِي الْكتاب. وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قصَّة وَاحِدَة، أَي: تَوَضَّأ من بَيت النَّصْرَانِيَّة بِالْمَاءِ الْحَمِيم، وَيكون الْمَقْصُود ذكر اسْتِعْمَال سُؤْر الْمَرْأَة النَّصْرَانِيَّة، وَذكر الْحَمِيم إِنَّمَا هُوَ لبَيَان الْوَاقِع، فَتكون مناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة قلت: هَذَا مِنْهُ لعدم إطلاعه فِي كتب الْقَوْم، فَظن أَنه أثر وَاحِد، وَقد عرفت أَنَّهُمَا أثران مستقلان. ثمَّ ادّعى أَن الْأَمر الْأَخير مُنَاسِب للتَّرْجَمَة، فهيهات أَن يكون مناسباً، لِأَن الْبَاب فِي وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته، وَفضل وضوء الْمَرْأَة؟ فَأَي وَاحِد من هذَيْن مُنَاسِب لهَذَا؟ وَأي وَاحِد من هذَيْن يدل على ذَلِك؟ أما توضؤ عمر بالحميم فَلَا يدل على شَيْء من ذَلِك ظَاهرا، وَأما توضؤ عمر

<<  <  ج: ص:  >  >>