بينان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من رُوَاته مصريون، وهم: أصبغ وَابْن وهب وَعَمْرو، وَثَلَاثَة مدنيون وهم: أَبُو النَّضر وَأَبُو سَلمَة وَابْن عمر. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ: أَبُو النَّصْر عَن أبي سَلمَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن مُعظم الروَاة قرشيون فُقَهَاء أَعْلَام. وَمِنْهَا: أَن هَذَا من مُسْند سعد بِحَسب الظَّاهِر، وَكَذَا جعله أَصْحَاب الْأَطْرَاف، وَيحْتَمل أَن يكون من مُسْند عمر أَيْضا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَبُو أَيُّوب الإفْرِيقِي عَن أبي النَّضر عَن أبي سَلمَة عَن ابْن عمر عَن عمر وَسعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالصَّوَاب قَول عَمْرو بن الْحَارِث عَن أبي النَّضر عَن أبي سَلمَة عَن ابْن عمر عَن سعد.
بَيَان من أخرجه غَيره لم يُخرجهُ البُخَارِيّ إلَاّ هَهُنَا، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَلم يخرج مُسلم فِي الْمسْح إلَاّ لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد، والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله:(وَأَن عبد الله بن عمر) عطف على قَوْله: (عَن عبد الله بن عمر) فَيكون مَوْصُولا إِن حمل على أَن أَبَا سَلمَة سمع ذَلِك من عبد الله، وإلَاّ فَأَبُو سَلمَة لم يدْرك الْقِصَّة، وَعَن ذَلِك قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِمَّا كَلَام أبي سَلمَة، وَالظَّاهِر هُوَ الثَّانِي. قَوْله:(عَن ذَلِك) أَي: عَن مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْخُفَّيْنِ. قَوْله:(شَيْئا) نكرَة عَام، لِأَن الْوَاقِع فِي سِيَاق الشَّرْط كالواقع فِي سِيَاق النَّفْي فِي إِفَادَة الْعُمُوم. وَقَوله:(حَدثَك) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول. وَقَوله:(سعد) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله:(فَلَا تسْأَل عَنهُ) أَي: عَن الشَّيْء الَّذِي حَدثهُ سعد. قَوْله:(غَيره) أَي: غير سعد، وَذَلِكَ لقُوَّة وثوقه بنقله.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَلَا يُنكره إلَاّ المبتدع الضال. وَقَالَت الخوراج: لَا يجوز. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عامفة الْفُقَهَاء، وَعَامة الصَّحَابَة إلَاّ شَيْئا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة كلهم يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من شَرَائِط أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. فَقَالَ: نَحن نفضل الشَّيْخَيْنِ، ونحب الخنتين، ونرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلَا نحرم نَبِيذ الْجَرّ. يَعْنِي: المثلث؛ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا على كبار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ، فَكَانَ بِدعَة، وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَالْأمة لم تخْتَلف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا جَاءَ كَرَاهَة ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَأَما الرِّوَايَة عَن عَليّ سبق الْكتاب بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فَلم يرو ذَلِك عَنهُ بِإِسْنَاد مَوْصُول يثبت مثله. وَأما عَائِشَة فَثَبت عَنْهَا أَنَّهَا أحالت بِعلم ذَلِك على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّمَا كرهه حِين لم يثبت مسح النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْمَائِدَة، فَلَمَّا ثَبت رَجَعَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْجَوْز قاني فِي (كتاب الموضوعات) : إِنْكَار عَائِشَة غير ثَابت عَنْهَا. وَقَالَ الكاشاني: وَأما الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس فَلم تصح لِأَن مَدَاره على عِكْرِمَة، وَرُوِيَ أَنه لما بلغ عَطاء قَالَ: كذب عِكْرِمَة، وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه قَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس يُخَالف النَّاس فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فَلم يمت حَتَّى تَابعهمْ، وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: قَالَ أَحْمد: لَيْسَ فِي قلبِي من الْمسْح شَيْء، فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثا عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا رفعوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا لم يرفعوا؛ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: الْمسْح أفضل، يَعْنِي من الْغسْل، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِنَّمَا طلبُوا الْفضل، وَهَذَا مَذْهَب الشّعبِيّ وَالْحكم وَإِسْحَاق. وَفِي (هِدَايَة الْحَنَفِيَّة) : الْأَخْبَار فِيهِ مستفيضة حَتَّى إِن من لم يره كَانَ مبتدعاً، لَكِن من رَآهُ ثمَّ لم يمسح أَخذ بالعزيمة، وَكَانَ مأجوراً. وَحكى الْقُرْطُبِيّ مثل هَذَا عَن مَالك أَنه قَالَ عِنْد مَوته: وَعَن مَالك فِيهِ أَقْوَال. أَحدهمَا: أَنه لَا يجوز الْمسْح أصلا. الثَّانِي: أَنه يجوز وَيكرهُ. الثَّالِث، وَهُوَ الْأَشْهر: يجوز أبدا بِغَيْر تَوْقِيت. الرَّابِع: أَنه يجوز بتوقيت. الْخَامِس: يجوز للْمُسَافِر دون الْحَاضِر. السَّادِس: عَكسه. وَقَالَ إِسْحَاق وَالْحكم وَحَمَّاد الْمسْح أفضل من غسل الرجلَيْن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن احْمَد. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: هما سَوَاء، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْغسْل أفضل من الْمسْح بِشَرْط أَن لَا يتْرك الْمسْح رَغْبَة عَن السّنة، وَلَا يشك فِي جَوَازه وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء رُوِيَ عَنهُ إِنْكَار الْمسْح إلَاّ مَالِكًا، وَالرِّوَايَات الصِّحَاح عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك. قلت: فِيهِ نظر لما فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة من أَن مُجَاهدًا وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة كرهوه، وَكَذَا حكى أَبُو الْحسن النسابة عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن وَأبي إِسْحَاق السبيعِي وَقيس بن الرّبيع، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب عَن