للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

(ثمَّ قَالَ: بلَى) مَعْنَاهُ أَي: أَنه لكبير وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ، من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد عَن مَنْصُور فَقَالَ: وَمَا يعذبان فِي كَبِير، وَإنَّهُ لكبير؛ وَهَذَا من زيادات رِوَايَة مَنْصُور على الْأَعْمَش، وَمُسلم لَمْ يذكر الرواتين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: بلَى، مُخْتَصّ بِإِيجَاب النَّفْي، فَمَعْنَاه: بلَى إنَّهُمَا ليعذبان فِي كَبِير، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينه وَبَين: مَا يعذبان فِي كَبِير؟ قلت: قَالَ ابْن بطال: (وَمَا يعذبان بكبير) يَعْنِي: عنْدكُمْ وَهُوَ كَبِير، يَعْنِي: عِنْد الله تَعَالَى، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ عبد الْملك الْبونِي فِي معنى قَوْله: (وانه لكبير) ، يحْتَمل أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ظن أَن ذَلِك غير كَبِير، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي الْحَال بِأَنَّهُ كَبِير، وَفِيه نظر.

بَيَان استنباط الاحكام الاول: فِيهِ أَن عَذَاب الْقَبْر حق يجب الْإِيمَان بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ، وعَلى ذَلِك أهل السّنة وَالْجَمَاعَة خلافًا للمعتزلة، وَلَكِن ذكر القَاضِي عبد الْجَبَّار رَئِيس الْمُعْتَزلَة فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه: إِن قيل مذهبكم أداكم إِلَى إِنْكَار عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قد أطبقت عَلَيْهِ الْأمة. قيل: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا أنكرهُ أَولا ضرار بن عمر وَلما كَانَ من أَصْحَاب وَاصل ظنُّوا أَن ذَلِك مِمَّا أنكرته الْمُعْتَزلَة، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل الْمُعْتَزلَة رجلَانِ: أَحدهمَا: يجوز ذَلِك كَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَالثَّانِي: يقطع بذلك. وَأكْثر شُيُوخنَا يقطعون بذلك، وَإِنَّمَا يُنكرُونَ قَول جمَاعَة من الجهلة: إِنَّهُم يُعَذبُونَ وهم موتى، وَدَلِيل الْعقل يمْنَع من ذَلِك، وبنحوه ذكره أَبُو عبيد الله المرزباني فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن الملحدة وَمن يذهب مَذْهَب الفلاسفة انكروه أَيْضا، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب لَازم حسب مَا أخبر بِهِ الصَّادِق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن الله يحيى العَبْد وَيرد الْحَيَاة وَالْعقل، وَهَذَا نطقت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَكَذَلِكَ يكمل الْعقل للصغار ليعلموا مَنْزِلَتهمْ وسعادتهم، وَقد جَاءَ أَن الْقَبْر يَنْضَم عَلَيْهِ كالكبير، وَصَارَ أَبُو الْهُذيْل وَبشر إِلَى أَن من خرج عَن سمة الْإِيمَان فَإِنَّهُ يعذب بَين النفختين، وَإِنَّمَا المساءلة إِنَّمَا تقع فِي تِلْكَ الْأَوْقَات، وَأثبت الْبَلْخِي والجبائي وَابْنه عَذَاب الْقَبْر، وَلَكنهُمْ نفوه عَن الْمُؤمنِينَ وأثبتوه للْكَافِرِينَ والفاسقين. وَقَالَ بَعضهم: عَذَاب الْقَبْر جَائِز، وَإنَّهُ يجْرِي على الْمَوْتَى من غير رد روحهم إِلَى الْجَسَد، وَإِن الْمَيِّت يجوز أَن يتألم ويحس، وَهَذَا مَذْهَب جمَاعَة من الكرامية. وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: إِن الله تَعَالَى يعذب الْمَوْتَى فِي قُبُورهم وَيحدث الآلام وهم لَا يَشْعُرُونَ، فَإِذا حشروا وجدوا تل الآلام كَالسَّكْرَانِ والمغشي عَلَيْهِ إِن ضُربوا لم يَجدوا ألماً، فَإِذا عَاد عقلهم إِلَيْهِم وجدوا تِلْكَ الآلام، وَأما بَاقِي الْمُعْتَزلَة مثل ضرار بن عمر وَبشر المريسي وَيحيى بن كَامِل وَغَيرهم فَإِنَّهُم أَنْكَرُوا عَذَاب الْقَبْر أصلا، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا فَاسِدَة تردها الْأَحَادِيث الثَّابِتَة، وَإِلَى الانكار أَيْضا ذهب الْخَوَارِج وَبَعض المرجئة. ثمَّ المعذب عِنْد أهل السّنة الْجَسَد بِعَيْنِه أَو بعضه بعد إِعَادَة الرّوح إِلَى جسده أَو إِلَى جزئه، وَخَالف فِي ذَلِك مُحَمَّد بن جرير وَطَائِفَة فَقَالُوا: لَا يشْتَرط إِعَادَة الرّوح، وَهَذَا أَيْضا فَاسد.

الثَّانِي: فِيهِ نَجَاسَة الأبوال مُطلقًا، قليلها وكثيرها، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَسَهل بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشعْبِيّ، وَصَارَ أَبُو حنيفَة وصاحباه إِلَى الْعَفو عَن قدر الدِّرْهَم الْكَبِير اعْتِبَارا للْمَشَقَّة وَقِيَاسًا على المخرجين. وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يرخصون فِي الْقَلِيل من الْبَوْل، وَرخّص الْكُوفِيُّونَ فِي مثل رُؤُوس الأبر من الْبَوْل، وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية: إِن الْبَوْل والعذرة من بني آدم الآكلين الطَّعَام نجسان، وطاهران من كل حَيَوَان مُبَاح الأول، ومكروهان من الْمَكْرُوه أكله. وَقيل: بل نجسان. وَعَامة الْفُقَهَاء لم يخففوا فِي شَيْء من الدَّم إلَاّ فِي الْيَسِير من دم الْحيض، وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك فِي مِقْدَار الْيَسِير، فَقيل: قدر الدارهم الْكَبِير.

الثَّالِث: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب تِلَاوَة الْكتاب الْعَزِيز على الْقُبُور، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى عَن الْمَيِّت التَّخْفِيف بتسبيح الشّجر، فتلاوة الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم رَجَاء وبركة. قلت: اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْمَسْأَلَة، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى وُصُول ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت، لما روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من مر بَين الْمَقَابِر فَقَرَأَ: قل هُوَ الله أحد، أحد عشر مرّة، ثمَّ وهب أجرهَا للأموات أعطي من الْأجر بِعَدَد الْأَمْوَات) . وَفِي (سنَنه) أَيْضا عَن أنس يرفعهُ: (من دخل الْمَقَابِر فَقَرَأَ سُورَة: يس، خفف الله عَنْهُم يَوْمئِذٍ) . وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من زار قبر وَالدية. أَو أَحدهمَا، فَقَرَأَ عِنْده، أَو عِنْدهمَا يس، غفر لَهُ) . وروى أَبُو حَفْص بن شاهين عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين رب السَّمَوَات، وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله

<<  <  ج: ص:  >  >>