للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

على الطَّهَارَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك كَمَا فِي مَوضِع الِاسْتِنْجَاء.

قَوْله: كَالدَّمِ وَغَيره ... إِلَى آخِره، قِيَاس فَاسد، لِأَنَّهُ لم يَأْتِ نَص بِجَوَاز الفرك فِي الدَّم وَنَحْوه، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي يَابِس الْمَنِيّ على خلاف الْقيَاس، فَيقْتَصر على مورد النَّص. فَإِن قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا} (الْفرْقَان: ٥٤) سَمَّاهُ: مَاء، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ بِمَاء، فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيه فِي الحكم، وَمن حكم المَاء أَن يكون طَاهِرا. قلت: أَن تَسْمِيَته: مَاء، لَا تدل على طَهَارَته، فَإِن الله تَعَالَى سمى مني الدَّوَابّ: مَاء، بقوله: {وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء} (النُّور: ٤٥) فَلَا يدل ذَلِك على طَهَارَة مَاء الْحَيَوَان. فان قلت: إِنَّه أصل الْأَنْبِيَاء والأولياء، فَيجب أَن يكون طَاهِرا. قلت: هُوَ أصل الْأَعْدَاء أَيْضا: كنمرود وَفرْعَوْن وهامان وَغَيرهم، على أَنا نقُول: الْعلقَة أقرب إِلَى الْإِنْسَان الْمَنِيّ، وَهُوَ أَيْضا أصل الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعَ هَذَا لَا يُقَال: إِنَّهَا طَاهِرَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَترد الطَّرِيقَة الثَّانِيَة أَيْضا مَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق أُخْرَى عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَ يَسْلت الْمَنِيّ من ثَوْبه بعرق الْإِذْخر ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَتَحْته من ثَوْبه يَابسا، ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن ترك الْغسْل فِي الْحَالَتَيْنِ. قلت: رد الطَّرِيقَة الثَّانِيَة بِهَذَا غير صَحِيح، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على طَهَارَته، وَقد يجوز أَن يكون كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يفعل بذلك فيطهر الثَّوْب، وَالْحَال أَن الْمَنِيّ فِي نَفسه نجس، كَمَا قد رُوِيَ فِيمَا أصَاب النَّعْل من الْأَذَى، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا وطىء الْأَذَى بخفيه فطهورهما التُّرَاب) . وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إِذا وطىء أحدكُم الْأَذَى بخفيه أَو نَعله فطهورهما التُّرَاب) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَكَانَ ذَلِك التُّرَاب يجزىء من غسلهمَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على طَهَارَة الْأَذَى فِي نَفسه، فَكَذَلِك مَا رُوِيَ فِي الْمَنِيّ. فان قلت: فِي سَنَده مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ، وَقد تكلمُوا فِيهِ. قلت: وَثَّقَهُ ابْن حبَان وروى حَدِيثه فِي (صَحِيحه) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي (الْخُلَاصَة) : وَرَوَاهُ ابو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول ابْن الْقطَّان: وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق لَا يظنّ بهَا الصِّحَّة. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِمَعْنَاهُ، وَرُوِيَ أَيْضا نَحوه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا. وَالْمرَاد من الْأَذَى: النَّجَاسَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأما مَالك فَلم يعرف الفرك، وَالْعَمَل عِنْدهم على وجوب الْغسْل كَسَائِر النَّجَاسَات. قلت: لَا يلْزم من عدم معرفَة الفرك أَن يكون الْمَنِيّ طَاهِرا عِنْده، فَإِن عِنْده الْمَنِيّ نجس كَمَا هُوَ عندنَا، وَذكر فِي (الْجَوَاهِر) للمالكية: الْمَنِيّ نجس وَأَصله دم، وَهُوَ يمر فِي ممر الْبَوْل، فَاخْتلف فِي سَبَب التَّنْجِيس: هَل هُوَ رده إِلَى أَصله، أَو مروره فِي مجْرى الْبَوْل؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَقَالَ بَعضهم: الثَّوْب الَّذِي اكتفت فِيهِ بالفرك ثوب النّوم، وَالثَّوْب الَّذِي غسلته ثوب الصَّلَاة، وَهُوَ مَرْدُود أَيْضا بِمَا فِي إِحْدَى رِوَايَات مُسلم من حَدِيثهَا أَيْضا: (لقد رَأَيْتنِي أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فركاً، فَيصَلي فِيهِ) . وَهَذَا التعقيب: بِالْفَاءِ، يَنْفِي احْتِمَال تخَلّل الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة؛ وأصرح مِنْهُ. رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة أَنَّهَا كَانَت تحكه من ثَوْبه وَهُوَ يُصَلِّي.

قلت: أَرَادَ بقوله: وَقَالَ بَعضهم، الْحَافِظ أَبَا جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (مَعَاني الْآثَار) : حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا بشر بن عمر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن الحكم عَن همام بن الْحَارِث أَنه كَانَ نازلاً على عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَاحْتَلَمَ، فرأته جَارِيَة لعَائِشَة وَهُوَ يغسل أثر الْجَنَابَة من ثَوْبه، أَو يغسل ثَوْبه، فاخبرت بذلك عَائِشَة، فَقَالَت عَائِشَة: لقد رَأَيْتنِي، وَمَا أَزِيد على أَن أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا من أَرْبَعَة عشر طَرِيقا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا، ثمَّ قَالَ: فَذهب ذاهبون إِلَى أَن الْمَنِيّ طَاهِر، وَأَنه لَا يفْسد المَاء، وَإِن وَقع فِيهِ وَإِن حكمه فِي ذَلِك حكم النخامة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الْآثَار. وَأَرَادَ بهؤلاء الذاهبين: الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: بل هُوَ نجس. وَأَرَادَ بالآخرين: الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة وَأَصْحَابه ومالكاً وَاللَّيْث بن سعد وَالْحسن بن حَيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقَالُوا لاحجة لكم فِي هَذِه الْآثَار لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت فِي ذكر ثِيَاب ينَام فِيهَا، وَلم يَأْتِ فِي ثِيَاب يُصَلِّي فِيهَا، وَقد رَأينَا أَن الثِّيَاب النَّجِسَة بالغائط وَالْبَوْل وَالدَّم لَا بَأْس بِالنَّوْمِ فِيهَا، وَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهَا، فقد يجوز أَن يكون الْمَنِيّ كَذَلِك، وَإِنَّمَا يكون هَذَا الحَدِيث حجَّة علينا وَلَو كُنَّا نقُول: لَا يصلح النّوم فِي الثَّوْب النَّجس، فَأَما إِذا كُنَّا نُبيح ذَلِك ونوافق مَا رويتم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك، ونقول من بعد: لَا يصلح الصَّلَاة فِي ذَلِك، فَلم نخالف شَيْئا مِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد جَاءَت عَن عَائِشَة فِيمَا كَانَت تفعل بِثَوْب رَسُول الله

<<  <  ج: ص:  >  >>