هَذَا الْكَلَام للاستغراق والانحصار، كَمَا فهمت الْأَنْصَار، لَكِن لما دلّ الدَّلِيل وهوالإجماع على وجوب الِاغْتِسَال من الْحيض وَالنّفاس أَيْضا نفي الانحصار فِيمَا وَرَاء ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بالمني، وَصَارَ الْمَعْنى جَمِيع الاغتسالات الْمُتَعَلّقَة بالمني منحصر فِيهِ لَا يثبت لغيره. فَإِن قلت: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن لَا يجب الْغسْل بالإكسال لعد المَاء. قلت: المَاء فِيهِ ثَابت تَقْديرا لِأَنَّهُ تَارَة يثبت عيَانًا كَمَا فِي حَقِيقَة الْإِنْزَال وَمرَّة دلَالَة كَمَا فِي التقاء الختانين فَإِنَّهُ سَبَب لنزول المَاء فأقيم مقَامه لكَونه أمرا خفِيا كالنوم، فاقيم مقَام الْحَدث لتعذر الْوُقُوف عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْمَنْسُوخ يَنْبَغِي أَن يكون حكما شَرْعِيًّا، وَعدم وجوب الْغسْل عِنْد عدم الْإِنْزَال ثَابت بِالْأَصْلِ. قلت: عَدمه ثَابت بِالشَّرْعِ، إِذْ مَفْهُوم الْحصْر فِي، إِنَّمَا يدل عَلَيْهِ لِأَن معنى الْحصْر إِثْبَات الْمَذْكُور، وَنفي غير الْمَذْكُور، فيفي، أَنه لَا مَاء من غير المَاء وَقَالَ الْكرْمَانِي: ثمَّ الرَّاجِح من الْحَدِيثين يَعْنِي حَدِيث: (المَاء من المَاء) حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب حَدِيث التقاء الختانين، لِأَنَّهُ بالمنطوق يدل على وجوب الْغسْل، وَحَدِيث (المَاء من المَاء) بِالْمَفْهُومِ يدل على عَدمه، وَحجَّة الْمَفْهُوم مُخْتَلف فِيهَا وعَلى تَقْدِير ثُبُوتهَا الْمَنْطُوق أقوى من الْمَفْهُوم، وعَلى هَذَا التَّقْرِير لَا يحْتَاج إِلَى القَوْل بالنسخ. قلت: عدم دَعْوَى الِاحْتِيَاج إِلَى القَوْل بالنسخ غير صَحِيح، لِأَن المستنبطين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ مَا وفقوا بَين أَحَادِيث هَذَا الْبَاب المتضادة إلَاّ بِإِثْبَات النّسخ على مَا ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت: حَدِيث الالتقاء مُطلق، وَحَدِيث: (المَاء من المَاء) مُقَيّد فَيجب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد. قلت: هَذَا سُؤال الْكرْمَانِي على مذْهبه، ثمَّ أجَاب: لَيْسَ ذَلِك مُطلقًا بل عَاما لِأَن الالتقاء وصف يَتَرَتَّب الحكم عَلَيْهِ، وَكلما وجد الْوَصْف وجد الحكم، وَهَذَا لَيْسَ مُقَيّدا بل خَاصّا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: بالالتقاء يجب الْغسْل. ثمَّ قَالَ: بالالتقاء مَعَ الْإِنْزَال يجب الْغسْل، فَيصير من بَاب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر) ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ودباغها طهرهَا) وإفراد فَرد من الْعَام بِحكم الْعَام لَيْسَ من المخصصات.
تابَعَهُ عَمْرُو بنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ
عَمْرو: بِالْوَاو وَهُوَ عَمْرو بن مَرْزُوق الْبَصْرِيّ، أَبُو عُثْمَان الْبَاهِلِيّ: يُقَال: مَوْلَاهُم وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، روى عَن شُعْبَة وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة وَعمْرَان الْقطَّان والحمادين وَآخَرين، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي أول الدِّيات، وَفِي مَنَاقِب عَائِشَة، وَقَالَ: مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وروى عَنهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا وَذكره صَاحب (اسماء الرِّجَال) للْبُخَارِيّ، وَمُسلم فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذِه التَّرْجَمَة يَعْنِي، من تَرْجَمَة عمر بِالْوَاو، فَدلَّ على أَن مُسلما لم يرو عَنهُ وَلَا روى لَهُ شَيْئا، وَإِنَّمَا ذكر مِنْهُ هَذَا، لِأَن صَاحب (التَّلْوِيح) ذكر فِي شَرحه أَن رِوَايَة عمر بن مَرْزُوق هَذِه عِنْد مُسلم: عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة عَن وهب بن جرير وَابْن أبي عدي كِلَاهُمَا عَن عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة، وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) وَهُوَ من الْغَلَط الصَّرِيح، وَذكره فِي إِسْنَاد مُسلم حَشْو زَائِد بِلَا فَائِدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي هَذَا اللَّفْظ، يَعْنِي. قَوْله: (تَابعه عَمْرو عَن شُعْبَة) يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة أَو عَن شُعْبَة عَن الْحسن، فيختلف الضَّمِير فِي تَابعه بِحَسب الْمرجع قلت: لَا اخْتِلَاف للضمير فِيهِ، بل هُوَ رَاجع إِلَى هِشَام على كل حَال، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عُثْمَان بن أَحْمد بن السماك، فَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر الضَّبِّيّ حَدثنَا عَمْرو بن مَرْزُوق حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة إِلَى آخِره، نَحْو سِيَاق حَدِيث الْبَاب لَكِن فِي رِوَايَته: ثمَّ أجهدها، من بَاب الإجهاد قَوْله: (مثله) أَي: مثل حَدِيث الْبَاب.
وقالَ مُوسَى حدّثنا أبَانُ قَالَ حدّثنا قَتادَةُ أخبرنَا الْحَسَنُ مِثْلَهُ
مُوسَى: هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَأَبَان هُوَ ابْن يزِيد الْعَطَّار، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ.
وفيهذا الْإِسْنَاد التحديث فِي موضِعين أَحدهمَا: مُوسَى عَن أبان، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هُوَ الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع. وَالْآخر: أبان عَن قَتَادَة. وَفِيه: الْإِخْبَار فِي مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ قَتَادَة عَن الْحسن.
وَمن فَوَائِد هَذَا أَن فِيهِ التَّصْرِيح بتحديث الْحسن لِقَتَادَة، لِأَن فِي رِوَايَة حَدِيث الْبَاب قَتَادَة عَن الْحسن، وَقَتَادَة ثِقَة ثَبت لكنه مُدَلّس، وَإِذا صرح بِالتَّحْدِيثِ لَا يبْقى كَلَام. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) رِوَايَة مُوسَى هَذِه عِنْد الْبَيْهَقِيّ أخرجهَا من طَرِيق عُثْمَان وَهِشَام، كِلَاهُمَا عَن مُوسَى عَن أبان وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) كِلَاهُمَا غَلطا وَلم يخرج الْبَيْهَقِيّ إلَاّ من طَرِيق عُثْمَان عَن همام وَأَبَان جَمِيعًا عَن قَتَادَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم قَالَ: تَابعه عَمْرو، وَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute