رِوَايَة هِشَام الْمُعَلقَة الْمَذْكُورَة فِي آخر الحَدِيث، وَهَذِه الصِّيغَة فِي حكم الْمَرْفُوع، وَكَذَلِكَ، كنار وَكَانُوا، وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ وَقع فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقررهم عَلَيْهِ فَهُوَ مَرْفُوع. معنى: قَوْله: (أَن تحد) كلمة أَن مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: كُنَّا ننهى عَن الْإِحْدَاد. قَوْله: (فَوق ثَلَاث) يَعْنِي بِهِ اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامهَا وَلذَلِك أنث الْعدَد. قَوْله: (إِلَّا على زوج) كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: إلَاّ على زَوجهَا الأول مُوَافق للفظ: تحد غَائِبَة. وَالثَّانِي: بِصِيغَة الْمُتَكَلّم قَالَه الْكرْمَانِي: وَيُقَال: تَوْجِيه الثَّانِي أَن الضَّمِير يعود على الْوَاحِدَة المندرجة فِي قَوْلهَا: (كُنَّا ننهى) أَي: كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ. قَوْله: (وَعشرا) أَي: عشر لَيَال، إِذا وَأُرِيد بِهِ الْأَيَّام لقيل: ثَلَاثَة بِالتَّاءِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي قَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} (سُورَة الْبَقَرَة: ٢٣٤) لَو قلت فِي مثله: عشرَة، لخرج من كَلَام الْعَرَب، لَا نراهم قطّ يستعملون التَّذْكِير فِيهِ، وَقَالَ الْفرق بَين الْمُذكر والمؤنث فِي الإعداد إِنَّمَا هُوَ عِنْد ذكر الْمُمَيز أما لَو لم يذكر جَازَ فِيهِ التَّاء وَعَدَمه مُطلقًا فَإِن قلت: وَعشرا مَنْصُوب بِمَاذَا؟ قلت: هُوَ عطف على قَوْله: أَرْبَعَة وَهُوَ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَلَا تكتحل) بِالرَّفْع، ويروي بِالنّصب، فتوجيهه أَن تكون لَا زَائِدَة وتأكيداً فَإِن قلت: لَا، لاتؤكد إلَاّ إِذا تقدم النَّفْي عَلَيْهِ. قلت: تقدم معنى النَّفْي وَهُوَ النَّهْي. قَوْله: (وَقد رخص) أَي: التَّطَيُّب.
ذكر استنباط الْأَحْكَام. الأول: وجوب الْإِحْدَاد على كل من هِيَ ذَات زوج، سَوَاء فِيهِ الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا، وَالصَّغِيرَة والكبيرة، وَالْبكْر وَالثَّيِّب، والحرة وَالْأمة، وَعند أبي حنيفَة: لَا إحداد على الصَّغِيرَة وَلَا على الزَّوْجَة الْأمة، وَأَجْمعُوا أَن لَا إحداد على أم الْوَلَد وَالْأمة إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا، وَلَا على الرَّجْعِيَّة، وَفِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا قَولَانِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَالْحكم أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد، وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ، وَقَالَ عَطاء وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر: بِالْمَنْعِ، وَحكي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة وَلَا على المتوفي عَنْهَا زَوجهَا، وَهُوَ شَاذ وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَجمعُوا على وجوب الْإِحْدَاد، إلَاّ الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِب، وَتعلق أَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَمَالك فِي أحد قوليه، وَابْن كنَانَة وَابْن نَافِع وَأَشْهَب بِأَن لَا إحداد على الْكِتَابِيَّة المتوفي عَنْهَا زَوجهَا الْمُسلم بقوله فِي الحَدِيث: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد) الحَدِيث، وَقَالَ الشَّافِعِي وَعَامة أَصْحَاب مَالك: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا. فَإِن قلت: لم خص الْأَرْبَعَة الْأَشْهر وَالْعشرَة؟ قلت: لِأَن غَالب الْحمل تبين حركته فِي هَذِه الْمدَّة، وأنث الْعشْر، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَيَّام بلياليها، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلَاّ مَا حُكيَ عَن يحيى بن أبي كثير، والأزاعي أَنه أَرَادَ أَرْبَعَة أشهر وَعشر لَيَال، وَإِنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر، وَعند الْجُمْهُور: لَا تحل حَتَّى تدخل اللَّيْلَة الْحَادِي عشر، وَهَذَا خرج على غَالب أَحْوَال المعتدات أَنَّهَا تَعْتَد بِالْأَشْهرِ، أما إِذا كَانَت حَامِلا فعدتها بِالْحملِ ويلزمها الْإِحْدَاد فِي جَمِيع الْمدَّة حَتَّى تضع، سَوَاء قصرت الْمدَّة أم طَالَتْ، فَإِذا وضعت فَلَا إحداد بعده وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يلْزمهَا الْإِحْدَاد بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَإِن لم تضع الْحمل.
الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم الْكحل سَوَاء احْتَاجَت إِلَيْهِ أم لَا، وَجَاء فِي (الْمُوَطَّأ) وَغَيره عَن أم سَلمَة: إجعليه بِاللَّيْلِ وامسحيه بِالنَّهَارِ. وَوجه الْجمع إِذا لم تحتج إِلَيْهِ لَا يحل لَهَا فعله، وَإِن احْتَاجَت لم يجز بِالنَّهَارِ دون اللَّيْل، وَالْأولَى تَركه لحَدِيث: إِن ابْنَتي اشتكت عينهَا أفنكحلها؟ قَالَ: لَا، وَلِهَذَا إِن سالما وَسليمَان بن يسَار قَالَا: إِذا خشيت على بصرها إِنَّهَا تكتحل وتتداوى بِهِ وَإِن كَانَ مطيباً، وَجوزهُ مَالك فِيمَا حَكَاهُ الْبَاجِيّ تكتحل بِغَيْر مُطيب وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَالْمرَاد بالكحل الْأسود والأصفر، أما الْأَبْيَض كالتوتيا وَنَحْوه فَلَا تَحْرِيم فِيهِ عِنْد أَصْحَابنَا إِذْ لَا زِينَة فِيهِ، وَحرمه بَعضهم على الشعْثَاء حَتَّى تتزين.
الثَّالِث: فِيهِ تَحْرِيم الطّيب، وَهُوَ مَا حرم عَلَيْهَا فِي حَال الْإِحْرَام وَسَوَاء ثوبها وبدنها. وَفِي (التَّوْضِيح) يحرم عَلَيْهَا أَيْضا كل طَعَام فِيهِ طيب.
الرَّابِع: فِيهِ تَحْرِيم لبس الثِّيَاب المعصفرة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء، على أَنه لَا يجوز للحادة لبس الثِّيَاب المعصفرة والمصبغة، إلَاّ مَا صبع بسواد، فَرخص فِيهِ عُرْوَة العصب، وَأَجَازَهُ الزُّهْرِيّ وَأَجَازَ مَالك تخليطه، وَصحح الشَّافِعِيَّة تَحْرِيم البرود مُطلقًا، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لمن أجَازه نعم، أجازوه فِيمَا إِذا كَانَ الصَّبْغ لَا يقْصد بِهِ الزِّينَة، بل يعْمل للمصيبة وَاحْتِمَال الْوَسخ كالأسود، والكحل، بل هُوَ أبلغ فِي الْحداد بل حكى الْمَاوَرْدِيّ وَجها أَنَّهَا يلْزمهَا فِي الْحداد، أَعنِي: الْأسود.
الْخَامِس: فِيهِ الترخيص للحادة إِذا اغْتَسَلت من الْحيض لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة، وَقَالَ النَّوَوِيّ وَلَيْسَ الْقسْط والظفرة مَقْصُودا للتطييب، وَإِنَّمَا رخص فِيهِ لإِزَالَة الرَّائِحَة، وَقَالَ الْمُهلب: رخص لَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute