للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَحْكَام الشَّرْع من أَفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الْجُمْهُور. وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال البلاغية فَأَجْمعُوا على مَنعه كَمَا أَجمعُوا على امْتنَاع تَعَمّده. وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال الدُّنْيَوِيَّة، وَفِيمَا لَيْسَ سَبيله الْبَلَاغ من الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا أَخْبَار الْقِيَامَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَلَا يُضَاف إِلَى وَحي فجوزه قوم، إِذْ لَا مفْسدَة فِيهِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ تَرْجِيح قَول من منع ذَلِك على الْأَنْبِيَاء فِي كل خبر من الْأَخْبَار، كَمَا لَا يجوز عَلَيْهِم خلف فِي خبر لَا عمدا وَلَا سَهوا، لَا فِي صِحَة وَلَا فِي مرض، وَلَا رضى وَلَا غضب. وَأما جَوَاز السَّهْو فِي الاعتقادات فِي أُمُور الدُّنْيَا فَغير مُمْتَنع.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز النسْيَان فِي الْأَفْعَال على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَاتَّفَقُوا على أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ بل يعلمهُمْ اتعالى بِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرطه تنبيهه على الْفَوْر أَي مُتَّصِلا بالحادثة، وجوزت طَائِفَة تَأْخِير مُدَّة حَيَاته. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين السَّهْو وَالنِّسْيَان؟ قيل: النسْيَان غَفلَة الْقلب عَن الشَّيْء، والسهو غَفلَة الشَّيْء عَن الْقلب، فَفِي هَذَا قَالَ قوم: كَانَ النَّبِي لَا يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك نفى عَن نَفسه النسْيَان فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ، (بقوله: لم أنس) ، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل. وَقَالَ الْقشيرِي: يبعد الْفرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يتلوح من اللَّفْظ على أَن النيسان عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، والسهو عدم الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا نسلم الْفرق، وَلَئِن سلم فقد أضَاف النسْيَان إِلَى نَفسه فِي غير مَا مَوضِع كَقَوْلِه: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني) . وَقَالَ القَاضِي: إِنَّمَا أنكر: نسيت الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ قد نهى عَن هَذَا بقوله: (بئْسَمَا لأحدكم أَن يَقُول: نسيت كَذَا، وَلكنه نسِّي) ، وَقد قَالَ أَيْضا: (لَا أنسى) على النَّفْي، (وَلَكِن أُنسَّى (. وَقد شكّ بعض الروَاة فِي رِوَايَته فَقَالَ: (أنسى أَو أنسَّى) . وَإِن: أَو، للشَّكّ أَو للتقسيم، وَإِن هَذَا يكون مِنْهُ مرّة من قبل شغله، وَمرَّة يغلب وَيجْبر عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ السَّائِل بذلك فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ أنكرهُ، وَقَالَ: كل ذَلِك لم يكن، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (لم أنس وَلم تقصر) ، أما الْقصر فبيِّن، وَكَذَلِكَ: لم أنس حَقِيقَة من قبل نَفسِي، وَلَكِن اأنساني. وسنتكلم فِي هَذَا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوب فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.

وَمِنْهَا: أَن بَعضهم احْتج بِهِ على أَن كَلَام النَّاسِي لَا يبطل الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو عمر: ذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى أَن الْكَلَام وَالسَّلَام سَاهِيا فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا، كَقَوْل مَالك وَأَصْحَابه سَوَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهمَا أَن مَالِكًا يَقُول: لَا يفْسد الصَّلَاة تعمد الْكَلَام فِيهَا إِذا كَانَ فِي شَأْنهَا وإصلاحها، وَهُوَ قَول ربيعَة وَابْن الْقَاسِم إلَاّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي الْمُنْفَرد، وَهُوَ قَول أَحْمد، ذكر الْأَثْرَم عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تكلم بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته لإصلاحها لم يفْسد عَلَيْهِ صلَاته، فَإِن تكلم لغير ذَلِك فَسدتْ عَلَيْهِ. وَذكر الْخرقِيّ عَنهُ: أَن مذْهبه فِيمَن تكلم عَامِدًا أَو سَاهِيا بطلت صلَاته إلَاّ الإِمَام خَاصَّة، فَإِنَّهُ إِذا تكلم لمصْلحَة صلَاته لم تبطل صلَاته. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَمن تَابعهمْ من أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم: إِن من تعمد الْكَلَام وَهُوَ يعلم أَنه لم يتم الصَّلَاة وَأَنه فِيهَا أفسد صلَاته، فَإِن تكلم نَاسِيا أَو تكلم وَهُوَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة لَا تبطل، وَأَجْمعُوا على أَن الْكَلَام عَامِدًا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يعملم أَنه فِي الصَّلَاة وَلم يكن ذَلِك لإِصْلَاح صلَاته أَنه يفْسد الصَّلَاة إلَاّ مَا رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه: من تكلم لإحياء نفس أَو مثل ذَلِك من الْأُمُور الجسام لم تفْسد بذلك صلَاته، وَهُوَ قَول ضَعِيف فِي النّظر. وَفِي (الْمُغنِي) : وَقَالَ ابْن الْمُنْذر مَا ملخصه: إِن الْكَلَام لغير مصلحَة الصَّلَاة يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام:

الأول: الْكَلَام جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فِيهَا. قَالَ القَاضِي فِي (الْجَامِع) : لَا أعرف عَن أحد نصا فِيهِ، وَيحْتَمل أَن لَا تبطل.

الثَّانِي: الْكَلَام نَاسِيا وَهُوَ على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن ينسى أَنه فِي الصَّلَاة، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: لَا تبطل، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالْأُخْرَى: تبطل، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالنَّوْع الآخر: أَن يظنّ أَن صلَاته تمت فيتكلم، فَإِن كَانَ سَلاما لَا تبطل رِوَايَة وَاحِدَة، وإلَاّ فالمنصوص عَن أَحْمد: إِن كَانَ لأمر الصَّلَاة لَا تبطل، وَإِن كَانَ لغير أمرهَا مثل: إسقني يَا غُلَام مَاء، تبطل. وَعنهُ رِوَايَة ثَانِيَة أَنَّهَا تفْسد بِكُل حَال، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي، وَفِيه رِوَايَة ثَالِثَة: أَنَّهَا لَا تبطل بالْكلَام فِي تِلْكَ الْحَال بِحَال، سَوَاء كَانَ من شَأْن الصَّلَاة أَو لم يكن، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَتخرج رِوَايَة رَابِعَة وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم إِن كَانَ إِمَامًا تكلم لمصْلحَة الصَّلَاة لم تفْسد، وَإِن تكلم غَيره فَسدتْ.

الْقسم الثَّالِث: أَن يتَكَلَّم مَغْلُوبًا على الْكَلَام، وَهُوَ ثَلَاثَة: أَنْوَاع: أَحدهَا: بِأَن تخرج الْحُرُوف من فِيهِ بِغَيْر اخْتِيَاره، مثل: إِن تثاوب فَقَالَ: آه، أَو تنفس

<<  <  ج: ص:  >  >>