للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلت: دَعْوَاهُ بِأَن البُخَارِيّ استنبط كَذَا، وَأَنه أَشَارَ إِلَى حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أعجب وَأغْرب من الأول لِأَن معنى قَوْله، صلى اعليه وَآله وَسلم: (لَا تتخذوها قبوراً) ، لَا تتخذوها خَالِيَة من الصَّلَاة وتلاوة الْقُرْآن كالقبور حَيْثُ لَا يصلى فِيهَا وَلَا يقْرَأ الْقُرْآن، وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سابط عَن أَبِيه، يرفعهُ: (نوروا بُيُوتكُمْ بِذكر اتعالى وَأَكْثرُوا فِيهَا تِلَاوَة الْقُرْآن، وَلَا تتخذوها قبوراً كَمَا اتخذها الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن الْبَيْت الَّذِي يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يَتَّسِع على أَهله وَيكثر خَيره واتحضره الْمَلَائِكَة، وتدحض عَنهُ الشَّيَاطِين، وَإِن الْبَيْت الَّذِي لَا يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يضيق على أَهله ويقل خَيره وتنفر مِنْهُ الْمَلَائِكَة وتحضر فِيهِ الشَّيَاطِين) . انْتهى. وَأَيْضًا، فَإِن معنى هَذَا على التَّشْبِيه البليغ، فحذفت مِنْهُ أَدَاة التَّشْبِيه لِأَن مَعْنَاهُ لَا تجعلوها مثل الْقُبُور حَيْثُ لَا يصلى فِيهَا، وَلَا دلَالَة لهَذَا أصلا على أَنَّهَا لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ بِنَوْع من أَنْوَاع الدلالات اللفظية.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: مُسَدّد بن مسرهد، وَيحيى الْقطَّان، وَعبيد اللَّه بن عمر الْعمريّ، وَنَافِع مولى ابْن عمر، وَعبد اللَّه بن عمر، وَالْكل ذكرُوا غَيره مرّة.

وَفِيه من لطائف الْإِسْنَاد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.

وَأخرجه: مُسلم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل ومسدد فرقهما. وَابْن مَاجَه عَن زيد بن أخزم وَعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو مُخْتَصرا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من صَلَاتكُمْ) ، قيل: أَي بعض صَلَاتكُمْ. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مفعول الْجعل، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَجعل الظُّلُمَات والنور} (الْأَنْعَام: ١) وَهُوَ إِذا كَانَ بِمَعْنى: التصيير، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض} (الْأَنْعَام: ٥٦١) قلت: معنى قَوْله: (اجعلوا فِي بُيُوتكُمْ من صَلَاتكُمْ) : صلوا فِيهَا وَلَا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصَّلَاة، وَالْمرَاد صَلَاة النَّافِلَة، أَي: صلوا النَّوَافِل فِي بُيُوتكُمْ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قيل هَذَا فِي الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم. قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُور: بل هُوَ فِي النَّافِلَة لإخفائها، وَلِلْحَدِيثِ الآخر: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلَاّ الْمَكْتُوبَة) . قلت: فعلى التَّقْدِير الأول يكون: من، فِي قَوْله: (من صَلَاتكُمْ) ، زَائِدَة، وَيكون التَّقْدِير: إجعلوا صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ، وَيكون المُرَاد مِنْهَا النَّوَافِل، وعَلى التَّقْدِير الثَّانِي تكون: من، للتَّبْعِيض مُطلقًا. وَيكون المُرَاد: من الصَّلَاة، مُطلق الصَّلَاة، وَيكون الْمَعْنى: اجعلوا بعض صَلَاتكُمْ وَهُوَ النَّفْل من الصَّلَاة الْمُطلقَة فِي بُيُوتكُمْ، وَالصَّلَاة الْمُطلقَة تَشْمَل النَّفْل وَالْفَرْض، على أَن الْأَصَح منع مَجِيء من، زَائِدَة فِي الْكَلَام الْمُثبت، وَلَا يجوز حمل الْكَلَام على الْفَرِيضَة لَا كلهَا وَلَا بَعْضهَا، لِأَن الْحَث على النَّفْل فِي الْبَيْت، وَذَلِكَ لكَونه أبعد من الرِّيَاء وأصون من المحبطات، وليتبرك بِهِ الْبَيْت وتنزل الرَّحْمَة فِيهِ وَالْمَلَائِكَة، وتنفر الشَّيَاطِين مِنْهُ على مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله: (وَلَا تتخذوها قبوراً) من التَّشْبِيه البليغ البديع بِحَذْف حرف التَّشْبِيه للْمُبَالَغَة، وَهُوَ تَشْبِيه الْبَيْت الَّذِي لَا يصلى فِيهِ بالقبر الَّذِي لَا يتَمَكَّن الْمَيِّت من الْعِبَادَة فِيهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ أوطاتاً للنوم لَا تصلونَ فِيهَا، فَإِن النّوم أَخُو الْمَوْت. وَقَالَ: وَأما من أَوله على النَّهْي عَن دفن الْمَوْتَى فِي الْبيُوت فَلَيْسَ بِشَيْء، وَقد دفن رَسُول الله فِي بَيته الَّذِي كَانَ يسكنهُ أَيَّام حَيَاته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ شَيْء فِيهِ نظر، وَدفن رَسُول الله فِيهِ لَعَلَّه من خَصَائِصه، سِيمَا وَقد رُوِيَ: (الْأَنْبِيَاء يدفنون حَيْثُ يموتون) . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر مَرْفُوعا: (مَا قبض نَبِي إلَاّ دفن حَيْثُ يقبض) . وَفِي إِسْنَاده: حُسَيْن بن عبد اللَّه الْهَاشِمِي، وَهُوَ ضَعِيف، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (الشَّمَائِل) وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) من طَرِيق سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ: (عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي اتعالى عَنهُ أَنه: قيل لَهُ: وَأَيْنَ يدْفن رَسُول ا؟ قَالَ: فِي الْمَكَان الَّذِي قبض افيه روحه، فَإِنَّهُ لم يقبض روحه إلَاّ فِي مَكَان طيب) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح وَلكنه مَوْقُوف، وَحَدِيث ابْن مَاجَه أَكثر تَصْرِيحًا فِي الْمَقْصُود.

وَقَالَ بَعضهم: وَإِذا حمل دَفنه فِي بَيته على الِاخْتِصَاص لم يبعد نهي غَيره عَن ذَلِك، بل هُوَ مُتَّجه لِأَن اسْتِمْرَار الدّفن فِي الْبيُوت رُبمَا يصيرها مَقَابِر فَتَصِير الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة. وَلَفظ أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم أصرح من حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر) ، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي النَّهْي عَن الدّفن فِي الْبيُوت مُطلقًا. قلت: لَا نسلم هَذَا الِاقْتِضَاء من ظَاهر اللَّفْظ، بل الْمَعْنى الَّذِي يدل عَلَيْهِ ظَاهر اللَّفْظ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>