خَالِيَة عَن الصَّلَاة كالمقابر، فَإِنَّهَا لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا احتجت بِهِ طَائِفَة على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على أَن الصَّلَاة لَا تجوز فِي الْمَقَابِر. قلت: الحَدِيث لَا يدل على هَذَا، بل تَرْجَمَة الْبَاب تساعده على ذَلِك، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ. وَقد وَردت أَحَادِيث عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة تدل على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، بل استدلت بهَا جمَاعَة على عدم الْجَوَاز كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى، وَهِي مَا رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعلي وَعبد اللَّه بن عَمْرو وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَحُذَيْفَة وَأنس وَأبي أُمَامَة وَأبي ذَر، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حدّثنا ابْن أبي عمر أَبُو عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث، قَالَ: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِدا إلَاّ الْمقْبرَة وَالْحمام) . ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ، وَذكر من ذَكَرْنَاهُمْ إِلَى آخِره، وللعلماء قَولَانِ فِي معنى حَدِيث الْبَاب: أَحدهمَا: أَنه ورد فِي صَلَاة النَّافِلَة لِأَنَّهُ قد سنّ الصَّلَوَات فِي جمَاعَة كَمَا هُوَ مُقَرر فِي الشَّرْع. وَالثَّانِي: أَنه ورد فِي صَلَاة الْفَرِيضَة ليقتدي بِهِ من لَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد، وَقد ذَكرْنَاهُ مفصلا عَن قريب، من صلى فِي بَيته جمَاعَة فقد أصَاب سنة الْجَمَاعَة وفضلها. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا صلى الرجل مَعَ الرجل فهما جمَاعَة، وَلَهُمَا التَّضْعِيف خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، وَرُوِيَ أَن إِسْحَاق وَأحمد وَعلي بن الْمدنِي اجْتَمعُوا فِي دَار أَحْمد فَسَمِعُوا النداء، فَقَالَ أحدهم أخرج بِنَا إِلَى الْمَسْجِد، فَقَالَ أَحْمد: خروجنا إِنَّمَا هُوَ للْجَمَاعَة وَنحن جمَاعَة، فأقاموا الصَّلَاة وصلوا فِي الْبَيْت: وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم كَانُوا لَا يتطوعون فِي الْمَسْجِد، مِنْهُم حُذَيْفَة والسائب بن يزِيد وَالربيع بن خثيم وسُويد بن غلفة، وَمن هَذَا أَخذ علماءونا أَن الْأَفْضَل فِي غير الْفَرَائِض الْمنزل، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ يرفعهُ: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبوراً) ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم عَن ولد ذِي الجناحين حَدثنِي عَليّ بن عمر عَن أَبِيه جَعْفَر الطيار عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده يرفعهُ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً وَلَا بُيُوتكُمْ قبوراً) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا أَبُو بكرَة قَالَ: حدّثنا أَبُو الْمطرف بن أبي الْوَزير قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن مُوسَى عَن سعيد بن إِسْحَاق عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الْمغرب فِي مَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل، فَلَمَّا فرغ رأى النَّاس يسبحون، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا هَذِه الصَّلَاة فِي الْبيُوت) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن بَحر بن نصر بِإِسْنَادِهِ عَن عبد اللَّه بن سعد، قَالَ: (سَأَلت النَّبِي عَن الصَّلَاة فِي بَيْتِي وَالصَّلَاة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: قد ترى مَا أقرب بَيْتِي من الْمَسْجِد، فَلِأَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إلَاّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: بَاب الْقيام فِي شهر رَمَضَان هَل هُوَ فِي الْمنَازل أفضل أم مَعَ الإِمَام؟ ثمَّ روى حَدِيث أبي ذَر، رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ: (صمت مَعَ النَّبِي)
الحَدِيث وَفِيه: (إِن الْقَوْم إِذا صلوا مَعَ الإِمَام حَتَّى ينْصَرف كتب لَهُم قيام تِلْكَ اللَّيْلَة) . ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى أَن الْقيام فِي شهر رَمَضَان مَعَ الإِمَام أفضل مِنْهُ فِي الْمنَازل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا ذكرنَا، وَأَرَادَ بهؤلاء: اللَّيْث بن سعد وَعبد اللَّه بن الْمُبَارك وَإِسْحَاق وَأحمد فَإِنَّهُم قَالُوا: الْقيام مَعَ الإِمَام فِي شهر رَمَضَان أفضل مِنْهُ فِي الْمنَازل. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: الْقيام فِي الْمَسْجِد مَعَ الإِمَام أحب إِلَيّ وَأفضل من صَلَاة المرأ فِي بَيته. وَقَالَ بِهِ قوم من الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَأَصْحَاب الشَّافِعِي، فَمن أَصْحَاب أبي حنيفَة: عِيسَى بن أبان وبكار بن قُتَيْبَة وَأحمد بن أبي عمرَان. وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِسْمَاعِيل بن يحيى الْمُزنِيّ وَمُحَمّد بن عبد اللَّه بن الحكم. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ جَابر وَعلي وَعبد اللَّه يصلونها فِي جمَاعَة.
قلت: ويحكى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَطَاوُس، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) يسْتَحبّ أَن يجْتَمع النَّاس فِي شهر رَمَضَان بعد الْعشَاء فَيصَلي بهم إمَامهمْ خمس ترويحات، ثمَّ قَالَ: وَالسّنة فِيهَا الْجَمَاعَة على وَجه الْكِفَايَة، حَتَّى لَو امْتنع أهل مَسْجِد عَن إِقَامَتهَا كَانُوا مسيئين، وَلَو أَقَامَهَا الْبَعْض فالمتخلف عَن الْجَمَاعَة تَارِك للفضيلة، لِأَن أَفْرَاد الصَّحَابَة يرْوى عَنْهُم التَّخَلُّف، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: بل صلَاته فِي بَيته أفضل من صلَاته مَعَ الإِمَام، وَأَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم: مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَرَبِيعَة وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالْأسود وعلقمة، فَإِنَّهُم قَالُوا: بل صلَاته فِي بَيته أفضل من صلَاته مَعَ الإِمَام. وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل من الْقيام مَعَ النَّاس أَو الِانْفِرَاد فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: صَلَاة الْمُنْفَرد فِي بَيته أفضل، وَقَالَ مَالك: وَكَانَ ربيعَة وَغير وَاحِد من عُلَمَائِنَا يَنْصَرِفُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute