أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار.
وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على أَن آخر وَقت الظّهْر ممتد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنه جعل لنا من الزَّمَان من الدُّنْيَا فِي مُقَابلَة من كَانَ قبلنَا من الْأُمَم بِقدر مَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَهُوَ يدل أَن بَينهمَا أقل من ربع النَّهَار، لِأَنَّهُ لم يبْق من الدُّنْيَا ربع الزَّمَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعثت أَنا والساعة كهاتين، وَأَشَارَ بالسبابة وَالْوُسْطَى) ، فَشبه مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَى قيام السَّاعَة مَعَ مَا انْقَضى بِقدر مَا بَين السبابَة وَالْوُسْطَى من التَّفَاوُت. قَالَ السُّهيْلي: وَبَينهمَا نصف سبع، لِأَن الْوُسْطَى ثَلَاثَة أَسْبَاع، كل مفصل مِنْهَا سبع، وزيادتها على السبابَة نصف سبع، وَالدُّنْيَا على مَا قدمْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس سَبْعَة آلَاف سنة، فَلِكُل سبع ألف سنة، وفضلت الْوُسْطَى على السبابَة بِنصْف الْأُنْمُلَة، وَهُوَ ألف سنة فِيمَا ذكره أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَغَيره، وَزعم السُّهيْلي: أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
٥٥٦ - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) . (فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة رَكْعَة، وَفِي الحَدِيث: سَجْدَة، والترجمة فِي الْإِدْرَاك من الْعَصْر، والْحَدِيث فِي: الْعَصْر وَالصُّبْح، فَلَا تطابق؟ قلت: المُرَاد من السَّجْدَة الرَّكْعَة على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَترك الصُّبْح فِيهَا من بَاب الِاكْتِفَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) . أخرجه فِي بَاب من أدْرك من الْفجْر رَكْعَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع وَلَفظه: (من أدْرك مِنْكُم أول رَكْعَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَمن أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) وَعند السراج: (من صلى بِسَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته الْعَصْر، وَمن صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الصُّبْح قبل طُلُوع الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد طُلُوعهَا فَلم يفته الصُّبْح) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر قبل أَن تطلع الشَّمْس وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْرك) . وَفِي لفظ: (من صلى رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح ثمَّ طلعت الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى) . وَفِي لفظ: (من صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس، ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد الْغُرُوب فَلم يفته الْعَصْر) . وَفِي لفظ: (من أدْرك قبل طُلُوع الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة، وَمن أدْرك قبل غرُوب الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (رَكْعَتَيْنِ) ، من غير تردد. غير أَنه مَوْقُوف، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة مَرْفُوع بِزِيَادَة: (أَو رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح) وَهُوَ عِنْد الطَّيَالِسِيّ: (من أدْرك من الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة الشَّك من أبي بشر قبل أَن تغيب الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) . وَعند أَحْمد: (من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْرك) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (قبل أَن يُقيم الإِمَام صلبه فقد أدْركهَا) ، وَعِنْده أَيْضا: (فقد أدْرك الْفَضِيلَة وَيتم مَا بَقِي) ، وَضَعفه وَفِي (سنَن) الكبحي: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا) ، وَفِي (الصَّلَاة) لأبي نعيم: (وَمن أدْرك رَكْعَتَيْنِ قبل أَن تغرب الشَّمْس، وَرَكْعَتَيْنِ بعد أَن غَابَتْ الشَّمْس فَلم تفته الْعَصْر) . وَعند مُسلم: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا إلَاّ أَنه يقْضِي مَا فَاتَهُ) ، وَعند الطَّحَاوِيّ: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة وفضلها) . قَالَ: وَأكْثر الروَاة لَا يذكرُونَ: فَضلهَا، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهر. وَعند الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث عَائِشَة نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أدْرك) كلمة: إِذا، تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت: الْفَاء، فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) . قَوْله: (سَجْدَة) أَي: رَكْعَة، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة) . وَكَذَلِكَ فَسرهَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، والسياق لحرملة، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَن عُرْوَة بن الزبير حَدثهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع، فقد أدْركهَا) . والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة، وفسرها حَرْمَلَة، وَكَذَا فسر فِي (الْأُم) أَنه يعبر بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا عَن الآخر، وأيا مَا كَانَ، فَالْمُرَاد: بعض الصَّلَاة، وَإِدْرَاك شَيْء مِنْهَا، وَهُوَ يُطلق على الرَّكْعَة والسجدة وَمَا دونهَا، مثل: تَكْبِيرَة الْإِحْرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ؛ قَوْله: (سَجْدَة) ، مَعْنَاهَا: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها، والركعة إِنَّمَا يكون تَمامهَا بسجودها، فسميت على هَذَا الْمَعْنى سَجْدَة: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين قَوْله: (من أدْرك من الصُّبْح سَجْدَة؟) وَبَين قَوْله: (من أدْرك سَجْدَة من الصُّبْح؟) قلت: رِوَايَة تقدم السَّجْدَة هِيَ السَّبَب الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاك، وَمن قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر قبل الرَّكْعَة فَلِأَن هذَيْن الإسمين هما اللَّذَان يدلان على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ دلَالَة خَاصَّة تتَنَاوَل جَمِيع أوصافها، بِخِلَاف السَّجْدَة فَإِنَّهَا تدل على بعض أَوْصَاف الصَّلَاة، فَقدم اللَّفْظ الْأَعَمّ الْجَامِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا صَرِيحًا فِي أَن من صلى رَكْعَة من الْعَصْر، ثمَّ خرج الْوَقْت قبل سَلَامه لَا تبطل صلَاته، بل يُتمهَا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَأما فِي الصُّبْح فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد. وَعند أبي حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، وَقَالُوا: الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، لِأَنَّهُ دخل وَقت النَّهْي عَن الصَّلَاة، بِخِلَاف الْغُرُوب، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: من وقف على مَا أسس عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة عرف أَن الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَعرف أَن غير هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث حجَّة عَلَيْهِم، فَنَقُول: لَا شكّ أَن الْوَقْت سَبَب للصَّلَاة وظرف لَهَا، وَلَكِن لَا يُمكن أَن يكون كل الْوَقْت سَببا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك يلْزم تَأْخِير الْأَدَاء عَن الْوَقْت، فَتعين أَن يَجْعَل بعض الْوَقْت سَببا، وَهُوَ الْجُزْء الأول لسلامته عَن المزاحم، فَإِن اتَّصل بِهِ الْأَدَاء تقررت السَّبَبِيَّة وإلَاّ تنْتَقل إِلَى الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده إِلَى أَن يتَمَكَّن فِيهِ من عقد التَّحْرِيمَة إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت، ثمَّ هَذَا الْجُزْء إِن كَانَ صَحِيحا، بِحَيْثُ لم ينْسب إِلَى الشَّيْطَان وَلم يُوصف بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْفجْر، وَجب عَلَيْهِ كَامِلا، حَتَّى لَو اعْترض الْفساد فِي الْوَقْت بِطُلُوع الشَّمْس فِي خلال الصَّلَاة فَسدتْ، خلافًا لَهُم، لِأَن مَا وَجب كَامِلا لَا يتَأَدَّى بالناقص، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُور الْمُطلق وَصَوْم الْقَضَاء لَا يتَأَدَّى فِي أَيَّام النَّحْر والتشريق، وَإِذا كَانَ هَذَا الْجُزْء نَاقِصا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان: كالعصر وَقت الاحمرار وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان الْمُسَبّب، فيتأدى بِصفة النُّقْصَان لِأَنَّهُ أدّى كَمَا لزم، كَمَا إِذا أنذر صَوْم النَّحْر وَأَدَّاهُ فِيهِ، فَإِذا غربت الشَّمْس فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم تفْسد الْعَصْر، لِأَن مَا بعد الْغُرُوب كَامِل فيتأدى فِيهِ، لِأَن مَا وَجب نَاقِصا يتَأَدَّى كَامِلا بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: يلْزم أَن تفْسد الْعَصْر إِذا شرع فِيهِ فِي الْجُزْء الصَّحِيح ومدها إِلَى أَن غربت. قلت: لما كَانَ الْوَقْت متسعا جَازَ لَهُ شغل كل الْوَقْت، فيعفى الْفساد الَّذِي يتَّصل بِهِ بِالْبِنَاءِ، لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ مَعَ الإقبال على الصَّلَاة مُتَعَذر، وَأما الْجَواب عَن الحَدِيث الْمَذْكُور فَهُوَ مَا ذكره الإِمَام الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ: أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى الْإِدْرَاك فِي الصّبيان الَّذين يدركون، يَعْنِي يبلغون قبل طُلُوع الشَّمْس، وَالْحيض اللَّاتِي يطهرن، وَالنَّصَارَى الَّذين يسلمُونَ، لِأَنَّهُ لما ذكر فِي هَذَا الْإِدْرَاك وَلم يذكر الصَّلَاة فَيكون هَؤُلَاءِ الَّذين سميناهم وَمن أشبههم مدركين لهَذِهِ الصَّلَاة، فَيجب عَلَيْهِم قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَ الَّذِي بَقِي عَلَيْهِم من وَقتهَا أقل من الْمِقْدَار الَّذِي يصلونها فِيهِ. فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته) . رَوَاهُ البُخَارِيّ والطَّحَاوِي أَيْضا فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذكر الْبناء بعد طُلُوع الشَّمْس؟ قلت: قد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس مَا لم تتواتر بِإِبَاحَة الصَّلَاة عِنْد ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا كَانَ فِيهِ الْإِبَاحَة كَانَ مَنْسُوخا بِمَا كَانَ فِيهِ التَّوَاتُر بِالنَّهْي. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ فِي هَذَا وَالَّذِي تذكره احْتِمَال؟ وَهل يثبت النّسخ بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: حَقِيقَة النّسخ هُنَا أَنه اجْتمع فِي هَذَا الْموضع محرم ومبيح، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار والْآثَار فِي بَاب الْمحرم مَا لم تتواتر فِي بَاب الْمُبِيح، وَقد عرف من الْقَاعِدَة أَن الْمحرم والمبيح إِذا اجْتمعَا يكون الْعَمَل للْمحرمِ، وَيكون الْمُبِيح مَنْسُوخا، وَذَلِكَ لِأَن النَّاسِخ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا شكّ أَن الْحُرْمَة مُتَأَخِّرَة عَن الْإِبَاحَة لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، وَالتَّحْرِيم عَارض، وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَنَّهُ يلْزم النّسخ مرَّتَيْنِ. فَافْهَم. فَإِنَّهُ كَلَام دَقِيق قد لَاحَ لي من الْأَنْوَار الإلهية. فان قلت إِنَّمَا ورد النَّهْي الْمَذْكُور عَن الصَّلَاة فِي التَّطَوُّع خَاصَّة وَلَيْسَ بنهي عَن قَضَاء الْفَرَائِض قلت: دلّ حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا على أَن الصَّلَاة الْفَائِتَة قد دخلت فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، وَعَن عمرَان أَنه قَالَ: (سرينا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة، أَو قَالَ: فِي سَرِيَّة، فَلَمَّا كَانَ آخر السحر عرسنا، فَمَا استيقظنا حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس) الحَدِيث، وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى فَاتَت عَنْهُم إِلَى أَن ارْتَفَعت الشَّمْس، وَلم يصلها قبل الإرتفاع، فَدلَّ ذَلِك أَن النَّهْي عَام يَشْمَل الْفَرَائِض والنوافل، والتخصيص بالتطوع تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح.
وَمِنْهَا: أَي: من الْأَحْكَام: أَن أَبَا حنيفَة وَمن تبعه استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَن آخر وَقت الْعَصْر هُوَ غرُوب الشَّمْس، لِأَن من أدْرك مِنْهُ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ مدرك لَهُ، فَإِذا كَانَ مدْركا يكون ذَلِك الْوَقْت من وَقت الْعَصْر لِأَن معنى قَوْله: (فقد أدْرك) ، أدْرك وُجُوبهَا، حَتَّى إِذا أدْرك الصَّبِي قبل غرُوب الشَّمْس أَو أسلم الْكَافِر أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض تجب عَلَيْهِ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو كَانَ الْوَقْت الَّذِي أدْركهُ جزأ يَسِيرا لَا يسع فِيهِ الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء فِيهِ حَقِيقَة، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِيمَا إِذا أدْرك دون رَكْعَة كتكبيرة مثلا: أَحدهمَا:، لَا يلْزمه، وَالْآخر: يلْزمه، وَهُوَ أصَحهمَا.
وَمِنْهَا: أَنهم اخْتلفُوا فِي معنى الْإِدْرَاك. هَل هُوَ للْحكم أَو للفضل أَو للْوَقْت فِي أقل من رَكْعَة؟ فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي: إِلَى أَنه لَا يدْرك شَيْئا من ذَلِك بِأَقَلّ من رَكْعَة، مُتَمَسِّكِينَ بِلَفْظ الرَّكْعَة، وَبِمَا فِي (صَحِيح) ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوها وَلَا تعدوها شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: إِلَى أَنه يكون مدْركا لحكم الصَّلَاة. فَإِن قلت: قيد فِي الحَدِيث بِرَكْعَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر أقل مِنْهَا؟ قلت: قيد الرَّكْعَة فِيهِ خرج مخرج الْغَالِب، فَإِن غَالب مَا يُمكن معرفَة الْإِدْرَاك بِهِ رَكْعَة أَو نَحْوهَا، حَتَّى قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الرَّكْعَة الْبَعْض من الصَّلَاة، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) و: (من أدْرك رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْر) ، (وَمن أدْرك سَجْدَة من الْعَصْر) ، فَأَشَارَ إِلَى بعض الصَّلَاة مرّة: بِرَكْعَة، وَمرَّة: بِرَكْعَتَيْنِ، وَمرَّة بِسَجْدَة. وَالتَّكْبِيرَة فِي حكم الرَّكْعَة لِأَنَّهَا بعض الصَّلَاة، فَمن أدْركهَا فَكَأَنَّهُ أدْرك رَكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاتفقَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، على إدراكهم الْعَصْر بتكبيرة قبل الْغُرُوب، وَاخْتلفُوا فِي الظّهْر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي قَول: هُوَ مدرك بتكبيرة لَهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْوَقْت، وَعنهُ أَنه بِتمَام الْقيام لِلظهْرِ يكون قَاضِيا لَهَا بعد، وَاخْتلفُوا فِي الْجُمُعَة، فَذهب مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَزفر وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَن: من أدْرك مِنْهَا رَكْعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: إِذا أحرم فِي الْجُمُعَة قبل سَلام الإِمَام صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد، وَأغْرب عَطاء وَمَكْحُول وطاووس وَمُجاهد فَقَالُوا: إِن من فَاتَتْهُ الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة يُصَلِّي أَرْبعا، لِأَن الْجُمُعَة إِنَّمَا قصرت من أجل الْخطْبَة: وَحمل أَصْحَاب مَالك قَوْله: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) على أَصْحَاب الْأَعْذَار: كالحائض والمغمى عَلَيْهِ وشبههما، ثمَّ هَذِه الرَّكْعَة الَّتِي يدركون بهَا الْوَقْت هِيَ بِقدر مَا يكبر فِيهَا للْإِحْرَام وَيقْرَأ أم الْقُرْآن قِرَاءَة معتدلة ويركع وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ يفصل بَينهمَا ويطمئن فِي كل ذَلِك، على قَول من أوجب الطُّمَأْنِينَة، وعَلى قَول من لَا يُوجب قِرَاءَة أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة، يَكْفِيهِ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْوُقُوف لَهَا. وَأَشْهَب لَا يُرَاعِي إِدْرَاك السَّجْدَة بعد الرَّكْعَة، وَسبب الْخلاف: هَل الْمَفْهُوم من اسْم الرَّكْعَة الشَّرْعِيَّة أَو اللُّغَوِيَّة؟
وَأما الَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب، وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ، وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام. وَقيل: يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس، وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: وَإِذا انْتهى إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَزفر وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن سِيرِين: إِذا أدْرك تَكْبِيرَة يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة وَتَكْبِيرَة للرُّكُوع فقد أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: يجْزِيه إِن أحرم قبل سُجُود الإِمَام. وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا جَاءَ وهم سُجُود يسْجد مَعَهم، فَإِذا سلم الإِمَام قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَة وَلَا يسْجد، ويعتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة. وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ إِذا جَاءَ وَالْقَوْم سُجُود سجد مَعَهم، فَإِذا رفعوا رؤوسهم سجد أُخْرَى، وَلَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا ركع ثمَّ مَشى فَدخل فِي الصَّفّ قبل أَن يرفعوا رؤوسهم اعْتد بهَا، وَإِن رفعوا رؤوسهم قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ فَلَا يعْتد بهَا.
وَأما حكم هَذِه الصَّلَاة: فَالصَّحِيح أَنَّهَا كلهَا أَدَاء، قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: كلهَا قَضَاء، وَقَالَ بَعضهم: تِلْكَ الرَّكْعَة أَدَاء، وَمَا بعْدهَا قَضَاء، وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي مُسَافر نوى الْعَصْر وَصلى رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء، فَلهُ قصرهَا. وَإِن قُلْنَا: كلهَا قَضَاء، أَو: بَعْضهَا، وَجب إِتْمَامهَا أَرْبعا إِن قُلْنَا: إِن فَائِتَة السّفر إِذا قَضَاهَا فِي السّفر يجب إِتْمَامهَا، وَهَذَا كُله إِذا أدْرك رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن كَانَ دون رَكْعَة، فَقَالَ الْجُمْهُور: كلهَا قَضَاء.
٥٥٧ - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِم بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أوتِيَ أهْلُ التوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فأُعْطُوا قِيرَاطا قِيرَاطا ثُمَّ أُوتِيَ أهْل الإِنْجِيلِ الإنْجِيلَ فَعَمِلُوا إلَى صَلَاةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيراطا قِيرَاطا ثُمَّ أوتِينَا القُرْآنَ فَعَمِلْنَا إلَى غُرُوب الشمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ فقَالَ أهْلُ الكِتَابَيْنِ أيْ رَبَّنَا أعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وأعْطَيْتَنَا قِيرَاطا قِيرَاطا وَنَحْنُ كُنَّا أكْثَرَ عَمَلاً قَالَ قَالَ الله عَزَّ وجلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شيءٍ قالُوا لَا قالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، فَدلَّ على أَن وَقت الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَن من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل الْغُرُوب فقد أدْرك وَقتهَا، فليتم مَا بَقِي، وَهَذَا الْمِقْدَار بطرِيق الِاسْتِئْنَاس الإقناعي، لَا بطرِيق الْأَمر البرهاني، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: هَذَا الحَدِيث مِثَال لمنازل الْأُمَم عِنْد الله تَعَالَى، وَإِن هَذِه الْأمة أقصرها عمرا وأقلها عملا وَأَعْظَمهَا ثَوابًا.
ويستنبط مِنْهُ للْبُخَارِيّ بتكلف فِي قَوْله: (فعملنا إِلَى غرُوب الشَّمْس،) ، فَدلَّ أَن وَقت الْعَمَل ممتد إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَنه لَا يفوت، وَأقرب الْأَعْمَال الْمَشْهُور بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة الْعَصْر، وَهُوَ من قبيل الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ، لَا من صَرِيح الْعبارَة، فَإِن الحَدِيث مِثَال وَلَيْسَ المُرَاد عملا خَاصّا بِهَذَا الْوَقْت، بل المُرَاد سَائِر أَعمال الْأمة من سَائِر الصَّلَوَات، وَغَيرهَا من سَائِر الْعِبَادَات فِي سَائِر مُدَّة بَقَاء الْأمة إِلَى قيام السَّاعَة، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: بِأَن الْأَحْكَام لَا تتَعَلَّق بالأحاديث الَّتِي تَأتي لضرب الْأَمْثَال فَإِنَّهُ مَوضِع تجوز. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَدخل البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث، والْحَدِيث الَّذِي بعده، فِي هَذَا الْبَاب لقَوْله: (ثمَّ أوتينا الْقُرْآن فعملنا إِلَى غرُوب الشَّمْس فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أَنه قد يسْتَحق بِعَمَل الْبَعْض أجر الْكل، مثل الَّذِي أعطي من الْعَصْر إِلَى اللَّيْل أجر النَّهَار كُله، فَمثله كَالَّذي أعطي على رَكْعَة أدْرك وَقتهَا أجر الصَّلَاة كلهَا فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ بعد، لِأَنَّهُ لَو قَالَ: إِن (هَذِه الْأمة أَعْطَيْت ثَلَاثَة قراريط لَكَانَ أشبه، وَلكنهَا مَا أَعْطَيْت إلَاّ بعض أجر جَمِيع النَّهَار، نعم عملت هَذِه الْأمة قَلِيلا وَأخذت كثيرا، ثمَّ هُوَ أَيْضا منفك عَن مَحل الِاسْتِدْلَال، لِأَن عمل هَذِه الْأمة آخر النَّهَار كَانَ أفضل من عمل الْمُتَقَدِّمين قبلهَا، وَلَا خلاف أَن صَلَاة الْعَصْر مُتَقَدّمَة أفضل من صلَاتهَا مُتَأَخِّرَة، ثمَّ هَذَا من الخصائص المستثناة عَن الْقيَاس، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ؟ أَلا ترى أَن صِيَام آخر النَّهَار لَا يقوم مقَام جملَته، وَكَذَا سَائِر الْعِبَادَات؟ انْتهى. قلت: كل مَا ذكرُوا هَهُنَا لَا يَخْلُو عَن تعسف، وَقَوله: لَا خلاف، غير موجه، لِأَن الْخلاف مَوْجُود فِي تَقْدِيم صَلَاة الْعَصْر وتأخيرها، وَقِيَاسه على الصَّوْم كَذَلِك، لِأَن وَقت الصَّوْم لَا يتجزى، بِخِلَاف الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي، بِضَم الْهمزَة، مر فِي كتاب الْحِرْص على الحَدِيث، ونسبته إِلَى أويس أحد أجداده. الثَّانِي: ابراهيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الافراد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التابعة عَن التَّابِعِيّ. وهما: ابْن شهَاب وَسَالم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب الْإِجَارَة إِلَى نصف النَّهَار عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب فضل الْقُرْآن عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث عَن نَافِع بِهِ. وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا بقاؤكم فِيمَا سلف من الْأُمَم قبلكُمْ) ، ظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد، لِأَن ظَاهره أَن بَقَاء هَذِه الْأمة وَقع فِي زمَان الْأُمَم السالفة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن نسبتكم إِلَيْهِم كنسبة وَقت الْعَصْر إِلَى تَمام النَّهَار، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّمَا أجلكم فِي أجل من خلا من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى مغرب الشَّمْس) . قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: وغروب الشَّمْس، بِالْوَاو، لِأَن: بَين، يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، وَلَكِن المُرَاد من الصَّلَاة وَقت الصَّلَاة، وَله أَجزَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَين أَجزَاء وَقت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (أُوتِيَ أهل التَّوْرَاة) ، أُوتِيَ: على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أعطي، فالتوراة الأولى مجرورة بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة مَنْصُوبَة على أَنه مفعول ثَان، قيل: اشتقاق التَّوْرَاة من الوري، ووزنها: تفعلة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إسمان أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما: تفعلة وإفعيل، إِنَّمَا يَصح بعد كَونهمَا عربيين. وَقَرَأَ الْحسن: الأنجيل، بِفَتْح الْهمزَة، وَهُوَ دَلِيل على العجمة، لِأَن: أفعيل، بِفَتْح الْهمزَة عديم فِي أوزان الْعَرَب. قَوْله: (عجزوا) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَه أَيْضا فِي النَّصَارَى، فَإِن كَانَ المُرَاد من مَاتَ مِنْهُم مُسلما فَلَا يُقَال: عجزوا، لِأَنَّهُ عمل مَا أَمر بِهِ، وَإِن كَانَ قَالَه فِيمَن آمن ثمَّ كفر فَكيف يعْطى القيراط من حَبط عمله بِكفْر؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد: من مَاتَ مِنْهُم مُسلما قبل التَّغْيِير والتبديل، وَعبر بِالْعَجزِ لكَوْنهم لم يستوفوا عمل النَّهَار كُله، وَإِن كَانُوا قد استوفوا مَا قدر لَهُم، فَقَوله: عجزوا، أَي: عَن إِحْرَاز الْأجر الثَّانِي دون الأول، لَكِن من أدْرك مِنْهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وآمن بِهِ أعطي الْأجر مرَّتَيْنِ. قَوْله: (قيراطا) هُوَ نصف دانق، وَالْمرَاد مِنْهُ: النَّصِيب والحصة، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِنَّمَا كرر لفظ القيراط ليدل على تَقْسِيم القراريط على جَمِيعهم، كَمَا هُوَ عَادَة كَلَامهم، حَيْثُ أَرَادوا تَقْسِيم الشَّيْء على مُتَعَدد. قَوْله: (ثمَّ أُوتِيَ أهل الْإِنْجِيل الْإِنْجِيل) الأول مجرور بِالْإِضَافَة، وَالثَّانِي مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (فَقَالَ أهل الْكِتَابَيْنِ) أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. قَوْله: أَي رَبنَا) ، كلمة: أَي، من حُرُوف النداء، يَعْنِي: يَا رَبنَا، وَلَا تفَاوت فِي إِعْرَاب المنادى بَين حُرُوفه. قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا قَالَت النَّصَارَى (: نَحن أَكثر عملا لأَنهم آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: النَّصَارَى لم يُؤمنُوا بمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على ذَلِك جمَاعَة الإخباريين، وَأَيْضًا قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) حِكَايَة عَن قَول أهل الْكِتَابَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَول الْيَهُود ظَاهر، لِأَن الْوَقْت من الصُّبْح إِلَى الظّهْر أَكثر من وَقت الْعَصْر إِلَى الْمغرب، وَقَول النَّصَارَى لَا يَصح إلَاّ على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، حَيْثُ يَقُولُونَ: الْعَصْر هُوَ مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا من جملَة أدلتهم على مَذْهَبهم. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول أبي حنيفَة وَحده، وَغَيره من أَصْحَابه يَقُولُونَ مثله، وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا أسْند الأكثرية إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِن كَانَ فِي إِحْدَاهمَا بطرِيق التغليب، وَيُقَال: لَا يلْزم من كَونهم أَكثر عملا أَكثر زَمَانا، لاحْتِمَال كَون الْعَمَل أَكثر فِي الزَّمَان الْأَقَل. قَوْله: هَل ظلمتكم؟) أَي: هَل نقصتكم؟ إِذْ الظُّلم قد يكون بِزِيَادَة الشَّيْء، وَقد يكون بنقصانه. وَفِي بعض النّسخ: (أظلمتكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ أَيْضا بِمَعْنى: هَل ظلمتكم؟ أَي: فِي الَّذِي شرطت لكم شَيْئا؟ .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَفْضِيل هَذِه الْأمة وتوفر أجرهَا مَعَ قلَّة الْعَمَل، وَإِنَّمَا فضلت بِقُوَّة يقينها ومراعاة أصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر زللها فِي الْفُرُوع، بِخِلَاف من كَانَ قبلهم كَقَوْلِهِم: {اجْعَل لنا إلاها} (الْأَعْرَاف: ١٣٨) . وكامتناعهم من أَخذ الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل فَوْقهم، و: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} (الْمَائِدَة: ٥٤) .
وَفِيه: مَا استنبطه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب الْأَسْرَار) من أَن وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ قَرِيبا من أول الْعَاشِرَة، فَيكون إِلَى الْمغرب ثَلَاث سَاعَات غير شَيْء يسير، وَتَكون النَّصَارَى أَيْضا عمِلُوا ثَلَاث سَاعَات وشيئا يَسِيرا، وَهَذَا من أول الزَّوَال إِلَى أول السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَهُوَ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَاعْترض على هَذَا بِأَن النَّصَارَى لم تقله، وَإِنَّمَا قَالَه الْفَرِيقَانِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، ووقتهم أَكثر من وقتنا، فيستقيم قَوْلهم: أَكثر عملا؟ وَأجِيب: بِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يتفقان على قَول وَاحِد، بل قَالَت النَّصَارَى: كُنَّا أَكثر عملا وَأَقل عَطاء، وَكَذَا الْيَهُود، بِاعْتِبَار كَثْرَة الْعَمَل وَطوله، وَنقل بَعضهم كَلَام أبي زيد هَكَذَا، ثمَّ قَالَ: تمسك بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة كَأبي زيد إِلَى أَن وَقت الْعَصْر من مصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظلّ كل شَيْء مثله لَكَانَ مُسَاوِيا لوقت الظّهْر، وَقد قَالُوا: كُنَّا أَكثر عملا، فَدلَّ على أَنه دون وَقت الظّهْر. ثمَّ قَالَ: وَأجِيب بِمَنْع الْمُسَاوَاة، وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بِهَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أَن الْمدَّة بَين الظّهْر وَالْعصر أطول من الْمدَّة الَّتِي بَين الْعَصْر وَالْمغْرب. انْتهى. قلت: لَا يخفى على كل أحد أَن وَقت الْعَصْر، لَو كَانَ بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، يكون وَقت الظّهْر الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى مصير ظلّ كل شَيْء مثله، مثل وَقت الْعَصْر الَّذِي نقُول: وقته بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَمَعَ هَذَا أَبُو زيد مَا ادّعى الْمُسَاوَاة بالتحقيق، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى التَّنْزِيل لَا يلْزم من التَّمْثِيل والتشبيه التَّسْوِيَة من كل جِهَة. قلت: مَا ادّعى هُوَ التَّسْوِيَة من كل جِهَة حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ.
وَفِيه: مَا استنبطه بَعضهم أَن مُدَّة الْمُسلمين من حِين ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قيام السَّاعَة ألف سنة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل النَّهَار نِصْفَيْنِ الأول للْيَهُود، فَكَانَت مدتهم ألف سنة وسِتمِائَة سنة وَزِيَادَة فِي قَول ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَنهُ، وَفِي قَول ابْن إِسْحَاق: ألف سنة وَتِسْعمِائَة سنة وتسع عشرَة سنة، وَلِلنَّصَارَى كَذَلِك، فَجَاءَت مُدَّة النَّصَارَى لَا يخْتَلف النَّاس أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلوَات الله على نَبينَا وَعَلِيهِ سِتّمائَة سنة، فَبَقيَ للْمُسلمين ألف سنة وَزِيَادَة، وَفِيه نظر، من حَيْثُ إِن الْخلاف فِي مُدَّة الفترة، فَذكر الْحَاكِم فِي (الإكليل) أَنَّهَا مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ سنة، وَذكر أَنَّهَا أَرْبَعمِائَة سنة، وَقيل: خَمْسمِائَة وَأَرْبَعُونَ سنة. وَعَن الضَّحَّاك أَرْبَعمِائَة وبضع وَثَلَاثُونَ سنة، وَقد ذكر السُّهيْلي عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي: أَن جعفرا حدث بِحَدِيث مَرْفُوع: (إِن أَحْسَنت أمتِي فبقاؤها يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة، وَذَلِكَ ألف سنة، وَإِن أساءت فَنصف يَوْم) . وَفِي حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ، قَالَ: (رَأَيْتُك يَا رَسُول الله على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات، وَإِلَى جَنْبك نَاقَة عجفاء كَأَنَّك تبعتها، ففسر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاقة بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي أنذر بهَا، ودرجات الْمِنْبَر عدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفا) قَالَ السُّهيْلي: والْحَدِيث، وَإِن كَانَ ضَعِيف الْإِسْنَاد، فقد رُوِيَ مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح، أَنه قَالَ: (الدُّنْيَا سَبْعَة أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار.
وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على أَن آخر وَقت الظّهْر ممتد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنه جعل لنا من الزَّمَان من الدُّنْيَا فِي مُقَابلَة من كَانَ قبلنَا من الْأُمَم بِقدر مَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَهُوَ يدل أَن بَينهمَا أقل من ربع النَّهَار، لِأَنَّهُ لم يبْق من الدُّنْيَا ربع الزَّمَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعثت أَنا والساعة كهاتين، وَأَشَارَ بالسبابة وَالْوُسْطَى) ، فَشبه مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَى قيام السَّاعَة مَعَ مَا انْقَضى بِقدر مَا بَين السبابَة وَالْوُسْطَى من التَّفَاوُت. قَالَ السُّهيْلي: وَبَينهمَا نصف سبع، لِأَن الْوُسْطَى ثَلَاثَة أَسْبَاع، كل مفصل مِنْهَا سبع، وزيادتها على السبابَة نصف سبع، وَالدُّنْيَا على مَا قدمْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس سَبْعَة آلَاف سنة، فَلِكُل سبع ألف سنة، وفضلت الْوُسْطَى على السبابَة بِنصْف الْأُنْمُلَة، وَهُوَ ألف سنة فِيمَا ذكره أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَغَيره، وَزعم السُّهيْلي: أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
٥٥٨ - حدَّثنا أبُو كُرَيْبٍ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبي مُوسَى عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَثَلُ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْما يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إلَى اللَّيْلِ فَعَمِلُوا إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فقالُوا لَا حَاجَةَ لَنا إلَى أجْرِكَ فاسْتَأْجَرَ آخرِينَ فَقَالَ أكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ ولَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ فَعَمِلُوا حتَّى إذَا كانَ حِينَ صَلَاةِ العَصْرِ قالُوا لَكَ مَا عمِلْنَا فاسْتَأجَرَ قَوْما فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمسُ وَاسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ (الحَدِيث ٥٥٨ طرفه فِي: ٢٢٧١) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة لَا بالتصريح، بَيَان ذَلِك أَن وَقت الْعَمَل ممتد إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأقرب الْأَعْمَال الْمَشْهُورَة بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة الْعَصْر، وَإِنَّمَا قُلْنَا: بطرِيق الْإِشَارَة، لِأَن هَذَا الحَدِيث قصد بِهِ بَيَان الْأَعْمَال لَا بَيَان الْأَوْقَات.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أبي أُسَامَة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الْكُوفِي، ويكنى أَبَا بردة. الرَّابِع: أَبُو بردة، واسْمه: عَامر، وَهُوَ جد بريد الْمَذْكُور. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَرِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري. وَفِيه: ثَلَاثَة بالكنى.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْإِجَارَة أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الْمُسلمين) ، الْمثل، بِفَتْح الْمِيم فِي الأَصْل بِمَعْنى: الْمثل، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ النظير. يُقَال: مثل وَمثل ومثيل: كشبه وَشبه وشبيه، ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه بمورده مثل، وَلم يضْربُوا مثلا إلَاّ لقَوْل فِيهِ غرابة، وَهَذَا تَشْبِيه الْمركب بالمركب، فالمشبه والمشبه بِهِ هما المجموعان الحاصلان من الطَّرفَيْنِ، وإلَاّ كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال كَمثل: أَقوام استأجرهم رجل. وَدخُول: كَاف، التَّشْبِيه على الْمُشبه بِهِ، فِي تَشْبِيه الْمُفْرد بالمفرد، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك) ، الْخطاب إِنَّمَا هُوَ للْمُسْتَأْجر، وَالْمرَاد مِنْهُ لَازم هَذَا القَوْل، وَهُوَ ترك الْعَمَل. قَوْله: (فَقَالَ أكملوا) ، من الْإِكْمَال بِهَمْزَة الْقطع، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْإِجَارَة، وَوَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْكشميهني: (اعْمَلُوا) ، بِهَمْزَة الْوَصْل من الْعَمَل. قَوْله: (حِين) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ، أَي: كَانَ الزَّمَان زمَان الصَّلَاة، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِأَنَّهُ اسْم: كَانَ، وَتَكون تَامَّة. وَحَاصِل الْمَعْنى من قَوْله: (وَقَالُوا لَا حَاجَة لنا فِي أجرك) إِلَى آخِره لَا حَاجَة لنا فِي أجرتك الَّتِي شرطت لنا، وَمَا عَملنَا بَاطِل، فَقَالَ لَهُم: لَا تَفعلُوا، اعْمَلُوا بَقِيَّة يومكم وخذوا أجرتكم كَامِلا، فَأَبَوا وَتركُوا ذَلِك كُله عَلَيْهِ، فاستأجر قوما آخَرين، فَقَالَ لَهُم: إعملوا بَقِيَّة يومكم وَلكم الَّذِي شرطت لهَؤُلَاء من الْأجر، فعملوا حَتَّى حَان الْعَصْر، قَالُوا: لَك مَا عَملنَا بَاطِل ذَلِك الْأجر الَّذِي جعلت لنا، لَا حَاجَة لنا فِيهِ، فَقَالَ لَهُم: اكملوا بَقِيَّة عَمَلكُمْ، فَإِنَّمَا بَقِي من النَّهَار شَيْء يسير وخذوا أجركُم، فَأَبَوا عَلَيْهِ، فاستأجر قوما آخَرين فعملوا بَقِيَّة يومهم حَتَّى إِذا غَابَتْ الشَّمْس واستكملوا أجر الْفَرِيقَيْنِ كُله، ذَلِك مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى تركُوا مَا أَمرهم