للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلت: مَعْنَاهُ: وَرجل يحب غَيره فِي الله، والمحبة أَمر نسبي فَلَا بُد لَهَا من المنتسبين، فَلذَلِك قَالَ: رجلَانِ. قَوْله: (فِي الله) أَي: لأجل الله لَا لغَرَض دنياوي، وَكلمَة: فِي، قد تَجِيء للسَّبَبِيَّة، كَمَا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل) ، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (ورجلان قَالَ كل مِنْهُمَا للْآخر: إِنِّي أحبك فِي الله، فصدرا على ذَلِك) . قَوْله: (اجْتمعَا على ذَلِك) أَي: على الْحبّ فِي الله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (اجْتمعَا عَلَيْهِ) أَي: على الْحبّ الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي عَلَيْهِ، يَعْنِي: كَانَ سَبَب اجْتِمَاعهمَا حب الله والاستمرار عَلَيْهِ حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَا يحْتَاج إِلَى قَوْله: حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، بل الْمَعْنى: أَنَّهُمَا داما على الْمحبَّة الدِّينِيَّة وَلم يقطعاها بِعَارِض دُنْيَوِيّ، سَوَاء اجْتمعَا حَقِيقَة أَو لَا، حَتَّى فرق بَينهمَا الْمَوْت.

قَوْله: (وَرجل طلبته) أَي: وَالْخَامِس: رجل طلبته امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (دَعَتْهُ امْرَأَة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلمُسلم وللبخاري أَيْضا فِي الْحُدُود: عَن ابْن الْمُبَارك، وَزَاد ابْن الْمُبَارك: (إِلَى نَفسهَا) ، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) ، من طَرِيق أبي صَالح: عَن أبي هُرَيْرَة: (فعرضت نَفسهَا عَلَيْهِ) ، وَظَاهر الْكَلَام أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَة، وَبِه جزم الْقُرْطُبِيّ. وَقيل: يحْتَمل أَن تكون طلبته إِلَى التَّزْوِيج بهَا فخاف أَن يشْتَغل عَن الْعِبَادَة بالافتتان بهَا، أَو خَافَ أَن لَا يقوم بِحَقِّهَا لشغله بِالْعبَادَة عَن التكسب بِمَا يَلِيق بهَا، وَالْأول أظهر لوُجُود قَرَائِن عَلَيْهِ. قَوْله: (ذَات منصب) المنصب، بِكَسْر الصَّاد: الْحسب وَالنّسب الشريف. قَالَ الْجَوْهَرِي: المنصب الأَصْل، وَكَذَلِكَ النّصاب، وَإِنَّمَا خصصها بِالذكر لِكَثْرَة الرَّغْبَة فِيهَا وعسر حُصُولهَا، وَهِي طالبة لذَلِك وَقد أغنت عَن مراودته. قَوْله: (فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف الله) ، زَاد فِي رِوَايَة كَرِيمَة: (رب الْعَالمين) ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ زجرا لَهَا عَن الْفَاحِشَة، وَيحْتَمل أَن يَقُول بِقَلْبِه لزجر نَفسه. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا يصدر ذَلِك عَن شدَّة الْخَوْف من الله وَالصَّبْر عَنْهَا لخوف الله من أكمل الْمَرَاتِب وَأعظم الطَّاعَات.

قَوْله: (وَرجل تصدق) أَي: وَالسَّادِس: رجل تصدق أخْفى، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهُوَ جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، ومفعول: أخْفى، مَحْذُوف أَي: أخْفى الصَّدَقَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد: (تصدق فأخفى) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: عَن مُسَدّد عَن يحيى (تصدق بِصَدقَة فأخفاها) ، وَمثله لمَالِك فِي (الْمُوَطَّأ) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (تصدق إخفاء) ، بِكَسْر الْهمزَة ممدودا على أَنه مصدر مَنْصُوب، على أَنه حَال بِمَعْنى مخفيا. قَوْله: (حَتَّى لَا تعلم) ، بِضَم الْمِيم وَفتحهَا، نَحْو: مرض حَتَّى لَا يرجونه، وسرت حَتَّى تغيب الشَّمْس. قَوْله: (شِمَاله) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله: (لَا تعلم) . قَوْله: (مَا تنْفق يَمِينه) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول، وَإِنَّمَا ذكر الْيَمين وَالشمَال للْمُبَالَغَة فِي الْإخْفَاء والإسرار بِالصَّدَقَةِ، وَضرب الْمثل بهما لقرب الْيَمين من الشمَال ولملازمتهما، وَمَعْنَاهُ: لَو قدرت الشمَال رجلا متيقظا لما علم صَدَقَة الْيَمين لمبالغته فِي الْإخْفَاء. وَقيل: المُرَاد مَنْ على شِمَاله من النَّاس.

ثمَّ إعلم أَن أَكثر الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فِي البُخَارِيّ وَغَيره: (حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) ، وَوَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَهُوَ: حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله. وَقَالَ عِيَاض: هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ الَّتِي وصلت إِلَيْنَا من (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَالصَّوَاب الأول قلت: لِأَن السُّنَّة الْمَعْهُودَة إِعْطَاء الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، وَقد ترْجم عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم وَلَا مِنْهُ، بل هُوَ من شَيْخه أَو شيخ شَيْخه: يحيى الْقطَّان، وَقد طول الْكَلَام فِيهِ، وَلَا يُنكر الْوَهم من مُسلم وَلَا مِمَّن هُوَ دونه أَو فَوْقه، وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْقلب من الْكَاتِب واستمرت الروَاة عَلَيْهِ.

قَوْله: (وَرجل) أَي: وَالسَّابِع: رجل ذكر الله خَالِيا، أَي: من الْخلق، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون أبعد من الرِّيَاء، وَقيل: خَالِيا من الِالْتِفَات إِلَى غَيره تَعَالَى، وَلَو كَانَ فِي الْمَلأ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ (ذكر الله بَين يَدَيْهِ) ، وَيُؤَيّد الأول رِوَايَة ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد بن زيد: (ذكر الله فِي خلاء) ، أَي: فِي مَوضِع خَال، وَقَالَ بَعضهم: (ذكر الله) أَي: بِقَلْبِه من التَّذَكُّر أَو بِلِسَانِهِ من الذّكر قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الذّكر بِالْقَلْبِ من: الذّكر، بِضَم الذَّال، وباللسان من: الذّكر، بِكَسْر الذَّال، وَأَيْضًا لفظ: ذكر بِلَا قيد، وَلَا يكون مشتقا من التَّذَكُّر، فَمن لَهُ يَد فِي علم التصريف يفهم هَذَا. قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) ، وَإِنَّمَا أسْند الْفَيْض إِلَى الْعين مَعَ أَن الْعين لَا تفيض، لِأَن الفائض هُوَ الدمع، مُبَالغَة كَأَنَّهَا هِيَ الفائض، وَذَلِكَ كَقَوْلِه: {وَترى أَعينهم تفيض من الدمع} (الْمَائِدَة: ٨٣) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وفيض الْعين بِحَسب حَال الذاكر وبحسب مَا ينْكَشف لَهُ، فَفِي حَال أَوْصَاف الْجلَال يكون الْبكاء من خشيَة الله، وَفِي حَال أَوْصَاف الْجمال يكون الْبكاء من الشوق إِلَيْهِ، وَيشْهد للْأولِ مَا رَوَاهُ الجوزقي من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله) .

<<  <  ج: ص:  >  >>