وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: غير مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق، مَشْرُوعِيَّة ركُوب الْخَيل والتدرب على أخلاقها، واستحباب التأسي إِذا حصل مِنْهَا سُقُوط أَو عَثْرَة أَو غير ذَلِك بِمَا اتّفق للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْوَاقِعَة، وَبِه الأسوة الْحَسَنَة، وَمن ذَلِك أَنه يجوز على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يجوز على الْبشر من الأسقام وَنَحْوهَا من غير نقص فِي مِقْدَاره بذلك، بل لِيَزْدَادَ قدره رفْعَة ومنصبه جلالة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله قَالَ الحُمَيْدِيُّ قَوْلهُ إذَا صَلَّى جالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا هُوَ فِي مَرَضِهِ القَدِيمِ ثمَّ صلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسا والنَّاسُ خَلْفَهُ قِياما لَمْ يَأمُرْهُمْ بَالقُعودِ وإنَّمَا يُؤخَذُ بِالآخِرِ فالآخِرِ مِنْ فَعْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو عبد الله هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه، والْحميدِي هُوَ شيخ البُخَارِيّ وتلميذ الشَّافِعِي، واسْمه: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ابْن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد الْقرشِي الْأَسدي الْمَكِّيّ، ويكنى أَبَا بكر، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَيفهم من هَذَا الْكَلَام أَن ميل البُخَارِيّ إِلَى مَا قَالَه الْحميدِي، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور السّلف أَن الْقَادِر على الْقيام لَا يُصَلِّي وَرَاء الْقَاعِد إلَاّ قَائِما. وَقَالَ المرغيناني: الْفَرْض وَالنَّفْل سَوَاء. وَقَوله: إِنَّمَا يُؤْخَذ) إِلَى آخِره، إِشَارَة إِلَى أَن الَّذِي يجب بِهِ الْعَمَل هُوَ مَا اسْتَقر عَلَيْهِ آخر الْأَمر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما كَانَ آخر الْأَمريْنِ مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس وَرَاءه قيام، دلّ على أَن مَا كَانَ قبله من ذَلِك مَرْفُوع الحكم. فَإِن قلت: ابْن حبَان لم ير النّسخ، فَإِنَّهُ قَالَ، بعد أَن روى حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور: وَفِي هَذَا الْخَبَر بَيَان وَاضح أَن الإِمَام إِذا صلى قَاعِدا كَانَ على الْمَأْمُومين أَن يصلوا قعُودا، وَأفْتى بِهِ من الصَّحَابَة جَابر بن عبد الله وَأَبُو هُرَيْرَة وَأسيد بن حضير وَقيس ابْن فَهد، وَلم يرو عَن غَيرهم من الصَّحَابَة خلاف هَذَا بِإِسْنَاد مُتَّصِل وَلَا مُنْقَطع، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَالْإِجْمَاع عندنَا إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقد أفتى بِهِ أَيْضا من التَّابِعين. وَأول من أبطل ذَلِك من الْأمة الْمُغيرَة بن مقسم، وَأخذ عَنهُ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ثمَّ أَخذه عَنهُ أَبُو حنيفَة ثمَّ عَنهُ أَصْحَابه وَأَعْلَى حَدِيث احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:(لَا يؤمَّنَّ أحد بعدِي جَالِسا) ، وَهَذَا لَو صَحَّ إِسْنَاده لَكَانَ مُرْسلا، والمرسل عندنَا وَمَا لم يرو سيان، لأَنا لَو قبلنَا إرْسَال تَابِعِيّ وَأَن كَانَ ثِقَة للزمنا قبُول مثله عَن اتِّبَاع التَّابِعين، وَإِذ قبلنَا لزمنا قبُوله من أَتبَاع التَّابِعين، وَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن نقبل من كل أحد إِذا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا نقض الشَّرِيعَة، وَالْعجب أَن أَبَا حنيفَة يخرج عَن جَابر الْجعْفِيّ ويكذبه، ثمَّ لما اضطره الْأَمر جعل أحتج بحَديثه، وَذَلِكَ